تحتفي البوابة نيوز بواحد من الرعيل الأول الذين نشأت على أيديهم قصيدة الشعر الحر، إنه رائد التجديد الشعري بدر شاكر السياب الذي توافينا هذا العام ذكرى وفاته الخمسون فقد رحل عن عالمنا في سنة 1964، ومن هنا اقترحت دولة الإمارات العربية أن تكون 2014 سنةً لهذا الشاعر الذي لمع نجمه في سماء الفن ثم انطفأ بعد سبعة وثلاثين عامًا عاشها في دنيا الناس ليأتي رحيله المفاجئ والمبكر تتمةً لمأساته العميقه فقد عاش السياب حياة غلب حزنها على فرحتها وكان بحق رجل الحرمان الذي آمن بالشيوعية عله يجد فيها عزاءه ويحقق من خلالها بعض ما يطمح إليه من طمأنينة، لم لا؟ وهي تنشد العدالة الاجتماعية وتسعى إلى عالم يوتوبي ليس فيه استغلال ولا طبقية وتجعل الناس على مستوى الفكرة سواء ليست بينهم أية فروق، كما عرف عن السياب حبه للخمر وإقباله عليها فمن خلالها يهرب من واقعه ويذهل عن متاعبه المتجذرة داخل أعماق ذاته، ولعل أحد أهم أسباب هذا الحزن المتأصل عند بدر شاكر السياب حساسيته المفرطه التي عرفها منذ طفولته الباكرة إذ توفيت والدته وهو في عمر الزهور فتحول الطفل البريء إلى كائن حساس تؤذيه الكلمات حتى وإن كانت عابرة، وكان السياب يشعر بغربة المبدع وهي غربة قدرية كتبت على جميع الأدباء والفنانين وبخاصة في مجتمعات لا تحفل كثيرًا بالإبداع والثقافة كمجتمعاتنا العربية التي لا زالت تغلب عليها الأمية الثقافية بل والأمية الأبجدية أيضًا، كان السياب مغتربًا وحيدًا يميل إلى العزلة بشكل واضح ويشعر بفرديته إلى حالت دون اندماجه في الأوساط الاجتماعية بالمدن التي عاش فيها، وقد ظهر كل ذلك في شعره واضحًا جليًا، وفي محاولة منه للتعزي وإيجاد السلوى دخل السياب في أكثر من قصة حب لكن أيًا منها لم تنجح تقريبًا فخاب أمله في النساء ورأى كونهن وسيلة تقود الرجال إلى الهاوية. وهكذا عاش السياب في حياة متخمة بالمآسي والأهوال زاد عليها مرضه العضال الذي لم تفلح مستشفيات لندن على جلالة قدرها في علاجه أو تسكينه ليموت وهو في ريعان شبابه، لكنه لم يمت إلا بعد أن ملأ الدنيا وشغل الناس فالسبعة والثلاثون ربيعًا التي عاشها عرفتنا بشاعر مجدد سعى بقصيدته إلى بناء علاقة فريدة بين الحلم والواقع وخلق لغة إبداعية مختلفة غيرت البناء الشعري ولفتت نظر النقاد إلى هذا الشاعر الموهوب الذي تميز شعره بخيال مبتكر خلاق تنسبه القراءات السيكولوجية إلى ذكاءه الفطري وصفاء قريحته لتجيء صوره الشعرية فريدة في تكوينها وتستدعي بدورها ألفاظًا متفردة ومضامين جديدة في التعبير. ميلاده ونشأته: ولد الشاعر بدر شاكر السياب في الخامس والعشرين من ديسمبر عام 1926، في قرية جيكور التي أحبها حتى الثمالة وهي تابعة لقضاء (أبي الخصيب) في محافظة البصرة. والده: شاكر بن عبدالجبار بن مرزوق السياب والدته: هي كريمة بنت سياب بن مرزوق السياب التي فَقَدها وهو في السادسة من عمره، فكان لذلك أعمق الأثر في حياته. وبعد إذ أتمّ دروسه الابتدائية انتقل إلى البصرة وتابع فيها دروسه الثانوية، ثم انتقل إلى بغداد حيث التحق بدار المعلمين العالية، واختار لتخصصه فرع اللغة العربيّة وقضى سنتين في تتبّع الأدب العربي تتبّع ذوق وتحليل واستقصاء؛ وفي سنة 1945 انتقل إلى فرع اللغة الإنجليزية وتخرّج منه سنة 1948، وفي تلك الأثناء عُرف بميوله اليسارية كما عُرف بنضاله الوطني في سبيل تحرير العراق من النفوذ الإنجليزي، وفي سبيل القضية الفلسطينية. أُسندت إليه وظيفة تعليم اللغة الإنجليزية في الرمادي، وبعد أن مارسها عدة أشهر فُصل منها بسبب ميوله السياسية وأودع السجن. ولمّا رُدّت إليه حريته اتجه نحو العمل الحر ما بين البصرةوبغداد كما عمل في بعض الوظائف الثانوية، وفي سنة 1952 اضطُر إلى مغادرة بلاده والتوّجه إلى إيران فإلى الكويت، وذلك عقب مظاهرات اشترك فيها. وفي سنة 1954 رجع الشاعر إلى بغداد ووّزع وقته ما بين العمل الصحافي والوظيفة في مديرية الاستيراد والتصدير. ولكن الذي يظهر من خلال سيرة السيّاب أنه لم يأنس في المدينة (بغداد) بل ظل يحنّ إلى قريته التي ولد فيها (جيكور)، وقد أشار إلى ذلك الأديب الفلسطيني إحسان عباس حيث قال: « وأما السياب فإنه لم يستطع أن ينسجم مع بغداد لأنها عجزت أن تمحو صورة جيكور أو تطمسها في نفسه (لأسباب متعددة) فالصراع بين جيكور وبغداد، جعل الصدمة مزمنة، حتى حين رجع السياب إلى جيكور ووجدها قد تغيرت لم يستطع أن يحب بغداد أو أن يأنس إلى بيئتها، وظل يحلم أن جيكور لا بد أن تبعث من خلال ذاته» وعندما ثار عبد الكريم قاسم على النظام الملكي وأقام في 14 تموز سنة 1958 النظام الجمهوري كان بدر شاكر السياب من المرحبين بالانقلاب والمؤيدين له، وقد انتقل من وظيفته إلى تدريس الإنجليزية، وفي سنة 1959 انتقل من وظيفة التعليم إلى السفارة الباكستانية يعمل فيها؛ وبعدما أعلن انفصاله من الحزب الشيوعي عاد إلى وظيفته في مديرية الاستيراد والتصدير، ثم انتقل إلى البصرة وعمل في مصلحة الموانئ. في سنة 1962 أُدخل مستشفى الجامعة الأميركية ببيروت للمعالجة من ألم في ظهره، ثم عاد إلى البصرة وظلّ إلى آخر يوم من أيام يصارع الآلام إلى أن توفي سنة 1964. السياب وجيكور علاقة متفردة من الحب جيكور قرية صغيرة لا يزيد عدد سكانها وقت مولد شاعرنا السياب على (500) نسمة، اسمها مأخوذ في الأصل من الفارسية من لفظة (جوي كور) أي (الجدول الأعلي)، تحدثنا كتب التاريخ على أنها كانت موقعًا من مواقع الزنج الحصينة، دورها بسيطة مبنية من اللبن وجذوع أشجار النخيل المتواجدة بكثرة في بساتين جيكور التي يملك (آل السياب) فيها أراضٍ مزروعة بالنخيل تنتشر فيها أنهار صغيرة تأخذ مياهها من شط العرب، وكانت جيكور وارفة الظلال تنتشر فيها الفاكهة بأنواعها،وكان جوّها الشاعري الخلاب أحد ممهدات طاقة السياب الشعرية وذكرياته المبكرة فيه ظلت حتى أخريات حياته تمد شعره بالحيوية والتفجر (كانت الطفولة فيها بكل غناها وتوهجها تلمع أمام باصرته كالحلم... ويسجل بعض اجزائها وقصائده ملأي بهذه الصور الطفولية...) كما يقول صديقه الحميم، صديق الطفولة: الشاعر محمد على إسماعيل. هذه القرية أعني جيكور هي تابعة لقضاء أبي الخصيب الذي أسسه (القائد مرزوق أبي الخصيب) حاجب الخليفة المنصور عام 140 ه والذي شهد وقائع تاريخية هامة سجّلها التاريخ العربي، أبرزها معركة الزنج وما تبعها من أحداث. هذا القضاء الذي برز فيه شعراء كثيرون منهم (محمد محمود) من مشاهير المجددين في عالم الشعر والنقد الحديث و(محمد على إسماعيل) صاحب الشعر الكثير في المحافظة و(خليل إسماعيل) الذي ينظم المسرحيات الشعرية ويخرجها بنفسه ويصور ديكورها بريشته و(مصطفى كامل الياسين) شاعر و(مؤيد العبد الواحد) الشاعر الوجداني الرقيق وهو من رواة شعر السياب و(سعدي يوسف) الشاعر العراقي المعروف و(عبد اللطيف الدليشي) الأديب البصري و(عبد الستار عبد الرزاق الجمعة) وآخرين... نهر بويب: تنتشر في أبي الخصيب انهار صغيرة تأخذ مياهها من شط العرب وتتفرع إلى أنهار صغيرة... منها (نهر بويب)، النهر الذي ذكره الشاعر كثيرًا في قصائده... هذا النهر الذي كان في الأصل وسيلة لري بساتين النخيل، يبعد عن شط العرب أكثر من كيلومتر واحد، وهو لا ينبع منه بل يأخذ مياهه من نهر آخر اسمه (بكيع) بتصغير كلمة (بقعه )، و"بويب" الآن مجري عادي صغير جفّت مياهه وغطّي النهر نباتات (الحلفاء) وبعض الحشائش. وفي السابق كان على جانبيه أشجار الخوخ والمشمش والعنب، وكان بدر يحب أن يلعب في ماء بويب ويحلو له أن يلتقط المحار منه ويجلس عند نخله ينظر الماء المنساب.. وفي لقاء مع (عبدالمجيد السياب) عم الشاعر قال...: (كنت أعرف مكان السياب على بويب من الأوراق... إذ كان عندما يكتب يمزق كثيرًا من الأوراق ويرميها في النهر فأهتدي بها إليه...). وعن سر اهتمام السياب ب (بويب) قال السيد عبد المجيد في نهاية الأربعينيات قرأت قصيدة لبابلو نيرودا يتحدث عن نهر لا اذكر اسمه وكان السياب قريب مني، فقرأ القصيدة واعتقد أنه تأثر بها فكتب قصيدته (بويب). المرأة في حياة السياب بعض من ارتبط بهن وأحبهنّ وكان لهن أثر على شعره: كانت الراعية (هويله) هي أول امرأة خفق لها قلبه وأحبها، حيث كانت أكبر منه سنًا ترعي أغنام لها، وكان يقابلها خارج قريته. - وفجأة تحول إلى حب فتاة جميلة عمرها آنذاك (15) سنة، كانت تأتي إلى قريته والسياب في عنفوان شبابه وهو الباحث عن الحنين فتمسك بحب (وفيقه) التي كانت تسكن على مقربة من بيت الشاعر. كان بيت "وفيقه" فيه شباك مصبوغ باللون الأزرق يعلو عن الأرض مترًا واحدًا، وعنه قال السياب بعضًا من أجمل أشعاره، ولم يعرف حتى الآن هل كانت "وفيقة" تبادله الحب أم لا؟ وعلى أية حال فإن الحظ لم يسعف السياب في الزواج منها. وفي دار المعلمين العالية في بغداد وقع في حب جديد، "لباب" فتاة بغدادية أخذت حظها من العلم والمعرفة ولها فوق ثقافتها جمال يأخذ بالألباب فكأنها سميت لذلك "لباب" عشق السياب وجهها متناسق الخلقة جميل التكوين وبالأخص تلك الغمّازة الساحرة وكانت تلبس العباءة وعندما تمر بالسياب تضع العباءة على وجهها كي لا تراه!، (لباب) التي احبها الشاعر من جانب واحد كانت ذكية وجميلة جدا وكان أهلها يوصونها أن تعبس عندما تسير لكي لا يطمع الآخرون بملاحقتها وقد أعرضت عن كل الذين خطبوها. وأحب زميلة له حبا من طرف واحد أيضا وكان حبا افلاطونيًا ارتفع فيه الخيال حتى جاوز الحد وتضاءلت فيه رغبة الجسم فما كان منها إلا أن تتزوج رجلا ثريا وتترك السياب بآلامه. - وتعرّف على الشاعرة (لميعة عباس عمارة) في دار المعلمين العالية، ونشأت بينهما علاقة كانت أول الأمر بدء ذات طابع سياسي ولكن كعادته وقع في حبها لأنها كانت من أخلص صديقاته، وقال فيها قصائد كثيرة ودعاها السياب لزيارته في جيكور وبقيت في ضيافته ثلاثة أيام كانا يخرجان فيها سويًا إلى بساتين قريته ويقرأ لها من شعره وهما في زورق صغير. - ويتعرف الشاعر على صديقة بلجيكية، اسمها (لوك لوران) وقد وعدته أن تزور قريته جيكور فكتب قصيدة تعتبر من أروع قصائده الغزلية... - وشاء حظه أن يلتقي بمومس عمياء اسمها (سليمه) فاكتشف من خلالها عالم الليل والبغاء واكتشف أسرارا غريبة واعطانا صورة صادقة لما كانت تعانيه هذه الطبقة من الناس، فكانت قصيدته الرائعة (المومس العمياء) التي صوّر فيها الواقع الاجتماعي آنذاك وواقع المرأة بصورة خاصة. زواجه: تزوج السياب إحدي قريباته وأحبها كما يجب أن يكون حب الرجل لزوجته، وقد انجبت منه غيداء وغيلان والاء، ولمّا إصابة المرض كانت مثال المرأة الأصيلة، المحتملة كل متاعب زوجها وآلامه إذ كانت الحياة معه أيامًا قاسية لا يحتملها من النساء إلا كريمات الخلق زكيات المعدن طيبات القلب. وكانت السنوات الثلاث الأخيرة من حياته فترة رهيبة رأى فيها بأم عينيه صراع الموت مع الحياة، وراح يخوض المعركة وسلاحه الوحيد الشعر لكن الموت كان أعتى من القصيد وصمت العندليب الذي ملأ الروض غناءً. ريادته للشعر الحر قام بعض رواد الشعر في العراق -ومنهم السيّاب-، وفي مصر وغيرها من البلاد العربية بمحاولات جادّة للتخلص من رتابة القافية في الشعر العربي والتي أصبحت تمثل حجرًا لا ضورة له على معاني الشعراء المتدفقة الوثابة والتي أصبحت أكثر عمقًا وتجديدًا وانسجامًا مع العصر الحديث وتحدياته، وقد تأثر السيّاب بالشعر الإنجليزي وشاركه في ذلك البياتي ونازك الملائكة، وأرادوا نقل تلك الحرية التي شاهدوها في الشعر الأجنبي إلى الشعر العربي، وفي الواقع كانت هناك محاولات قبل هؤلاء الثلاثة للتغيير ولكنها بقيت مجرد محاولات لم تكلل بالنجاح ربما لأنها فقدت عنصر الجدية، وأما هؤلاء الثلاثة فقد كانت محاولاتهم جادّة بما تعنيه الكلمة وتتخذ من التغيير مذهبًا تدافع عنه وتنافح من أجله، « وإنما الذي يميّز هذه الحركة عن كل ما سبقها أن اعتمادها للشكل الشعري الجديد أصبح مذهبًا لا استطرافًا، وأن إيمانها بقيمة هذا التحول كان شموليًا لا محدودًا، وأن أفرادها في حماستهم لهذا الكشف الجديد رأوا وما زالوا يرون - عدا استثناءت قليلة - أن هذا الشكل يصلح دون ما عداه وعاء لجمع التجربة الإنسانية إذا أريد التعبير عنها بالشعر.»إلا أنه وقع كلام بين الباحثين في تحديد الرائد الأول للشعر الحديث، فالمعروف أن هناك نزاع بين السيّاب ونازك الملائكة على الريادة. سمات شعر السياب والمراحل التي مر بها مر شعر السياب بثلاثة مراحل في الأولى انشغل بواقعه الشخصي ومصير ذاته المشردة بين الحب وغربة الذات وهموم الإنسان. وفي الثانية انشغل بالوجود العام وبالوطن أيضًا واتجه إلى المنحى الاجتماعي واتسم شعره في هذه المرحلة باتساع الأبعاد والمعاني. أما الثالثة فكان المرض فيها قد تمكن منه وهده بمعنى الكلمة فتكلم عن الموت والحياة وعادل بينهما وتوزع بين تذكار الماضي الذي لا زالت ذكرياته ماثلة في أعماقه وبين رؤية الحاضر المأزوم الذي يعبث به فيه المرض. ويقف السيّاب من الشعر عامةً موقف الثائر الذي يعمل على قلب أوضاعه ونقله من ذهنية التقليد وتقديس الأنظمة القديمة إلى ذهنية الحياة الجديدة التي تنطق بلغة وطريقة جديدتين، وتعبّر عن حقائق جديدة أيضًا. وساعدَ السيّاب في عمله جرأة في طبيعته، وتحرُّك اجتماعيّ وسياسيّ ثوري هز العالم الشرقيّ هزًا عنيفًا، ثم انفتاح على أدب الغرب وأساليبه في التفكير والتعبير. وقد أدخل السيّاب على الشعر العربي ثورته التي قام بها في مجتمعه، فحوّله من نظام العروض الخليلي إلى نظام التفعيلة، وأخرج الأوزان القديمة من قواعدها المألوفة إلى أوزان أملَتْها عليه معانيه ونبضات وجدانه، وتصرف بالقوافي والتفاعيل وفقًا للمزاجيّة الشعريّة التي يوحي بها مقتضى الحال، هذا فضلًا عن التحليلات العميقة التي زخر بها شعره والتيارات الفكرية التي تأثر بها بحيث تروعنا في شعر السيّاب هذه الثروة الفكرية، وتلك الغزارة المعنوية، وذلك التدفق الهائج؛ وهذا العصف الفكري والعاطفي المرهَق، ثم تلك الواقعية اللفظية، والإلحاح على المشهد المثير واللفظة المعبّرة عن الثورة الحياتية المتفجرة، ثم أخيرًا تلك الرمزية التصويرية تستعين بالميثولوجيا والإشارات التاريخيّة التي تزيد الكلام حدّةً واتساعًا في الأفق. وهكذا فالسيّاب شاعر التحرُّر وشاعر الحياة والعنفوان. ويمثل شعر بدر أهم الاتجاهات الشعرية التي عرفها عصره، وكانت له حصيلة واسعة من الموروث الشعري الكلاسيكي، إضافة إلى ترجماته لمختارات من الشعر العالمي إلى العربية. بدأ بدر كلاسيكيًا، ثم تأثّر برومانسية "أبي شبكة" من لبنان و"بودلير من فرنسا"، لكن إضافاته الشعرية وإنجازاته بدأت بشعره الواقعي، ولاسيما قصائد "حفّار القبور؛ المومس العمياء؛ الأسلحة والأطفال". ومن أبدع ما تركه من الآثار ديوانه "أنشودةّ المطّر"، ففيه نماذج كثيرة للقصيدة العربية الحديثة، التي توفر فيها شكل فني حديث متميّز، ومضمون اجتماعي هادف في آن واحد، ومن أشهر قصائد هذا الديوان "أنشودة المطر، ومدينة السندباد؛ والنهر والموت؛ وبروس في بابل؛ وقصيدة المسيح". وتعد قصيدتاه: أنشودة المطر؛ وغريب على الخليج صوتًا مميزًا في الشعر العربي الحديث. ترجماته كان السيّاب يجيد اللغة الإنجليزية ويعشق آدابها ويقف من شعراء العالم موقف القارئ المتفاعل ولذا ساهم مساهمة متميزة في ترجمة الكثير من الأعمال المهمة لأدباء كبار، وممن ترجم لهم السيّاب الإسباني فدريكو جارسيا لوركا والأمريكي عزرا باوند والهندي طاغور والتركي ناظم حكمت والإيطالي أرتورو جيوفاني والبريطانيان "تي. إس. إليوت" وإديث سيتويل ومن تشيلي "بابلو نيرودا". وقد أصدر السيّاب مجموعة ترجماته لأول مرة عام 1955 في كتاب اسماه: (قصائد مختارة من الشعر العالمي الحديث). وفاته وفي سنة 1961 بدت صحة السياب آخذة في التدهور، وشعر أولًا بثقل في الحركة، وأخذ الألم يزداد في أسفل ظهره، ثم ظهرت بعد ذلك حالة الضمور في جسده وقدميه، وظل يتنقل بين بغداد وبيروت وباريس ولندن للعلاج دون جدوى، وأخيرًا ذهب إلى الكويت لتلقي العلاج في المستشفى الأميري وفيها توفي بالرابع والعشرين من كانون الأول عام 1964 عن 38 عامًا ونُقل جثمانه إلى البصرة وومن مفارقات الأيام أنه عاد إلى معشوقته (جيكور) في يوم من أيام الشتاء الباردة المطيرة، وقد شيّعه عدد قليل من أهله وأبناء محلته، ودفن في مقبرة الحسن البصري في الزبير، ذاك هو بدر شاكر السياب أسظورة الحزن والإبداع الذي نذكره كلما ذكرنا الشعر الحديث وكلما عنَّ لنا أن نسفح الدمع على غربة الإنسان في عالمه خاصة لو كان مبدعًا ملهمًا عبقريا.