انفرجت أزمة أحداث العنف والاشتباكات المسلحة التي وقعت مؤخرا في جبل لبنان وأخذت طابعا دمويا، وما خلفته من تداعيات وانقسامات سياسية هي الأعنف والأكثر خطورة على البلاد منذ تشكيل الحكومة اللبنانية في 31 يناير الماضي، وذلك بإعلان رئيس الوزراء سعد الحريري في مؤتمر صحفي مساء اليوم عن التوصل إلى مصالحة بين أطراف النزاع وفتح صفحة جديدة من التعاون بين الجميع، وذلك في ضوء مبادرة قادها رئيس مجلس النواب نبيه بري وتلقفها الجميع على نحو مفاجئ وغير متوقع. حادثة الجبل بدت ، على مدى 40 يوما كاملة ، ككرة النار يتقاذفها الجميع على نحو يهدد الاستقرار والتفاهمات السياسية في لبنان الذي يشهد تدهورا وتراجعا اقتصاديا وماليا كبيرا في الآونة الأخيرة، وتسببت في توقف جلسات مجلس الوزراء و"شلل حكومي" تام طيلة شهر يوليو بالكامل وما انقضى من أيام من شهر أغسطس الحالي. ووقعت الحادثة في 30 يونيو الماضي أثناء جولة كان يجريها وزير الخارجية رئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل في مدينة (عالية) بالجبل، حينما أقدم محتجون على قطع الطرق في سبيل منعه من استكمال جولته، بدعوى تعمده إطلاق تصريحات متكررة تنطوي على التعصب والاستفزاز وإذكاء الفتنة الطائفية بين المسيحيين والدروز في الجبل، ليتطور الأمر بصورة متسارعة ويتحول إلى اشتباك مسلح وتبادل إطلاق النيران بين عناصر من الحزب الديمقراطي اللبناني (حليف باسيل) وعناصر من الحزب التقدمي الاشتراكي، سقط ضحيتها قتيلان وأصيب آخرون. وتعد منطقة الجبل المعقل الرئيسي لأبناء طائفة الموحدين الدروز ، ويعتبر الحزب التقدمي الاشتراكي برئاسة وليد جنبلاط الممثل السياسي الأكبر للطائفة الدرزية في لبنان ، يليه الحزب الديمقراطي اللبناني برئاسة النائب طلال أرسلان (المتحالف مع التيار الوطني الحر وحزب الله) ، بالإضافة إلى حزب التوحيد العربي برئاسة الوزير السابق وئام وهاب والذي يعد بدوره حليفا لأرسلان في مواجهة جنبلاط. وقاد رئيس المجلس النيابي مشاورات مكثفة في الساعات الأخيرة من مساء أمس الخميس، بدعم وتشجيع من عدد من القوى السياسية الفاعلة والمؤثرة في البلاد، وذلك في خطوة بدت لافتة، خاصة وأنه كان قد أعلن قبلها بيوم واحد فقط ، خلال اجتماع أسبوعي مع عدد من أعضاء مجلس النواب (لقاء الأربعاء النيابي) ، أنه أوقف كافة المبادرات والمساعي التي كان يعمل عليها في سبيل التوصل إلى حلول ومصالحات لحادثة الجبل بسبب التوتر والتصعيد الكبير الذي تشهده البلاد، قائلا وفق التعبير اللبناني إنه "أوقف كافة محركاته" نحو حل الأزمة. وأثمرت الجهود "المفاجئة" خلال الساعات الأخيرة من مساء الخميس، عن عقد اجتماع في الخامسة من عصر اليوم الجمعة بقصر بعبدا الجمهوري برعاية من الرئيس ميشال عون، وبحضور بري والحريري، تم خلاله جمع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، ورئيس الحزب الديمقراطي اللبناني طلال أرسلان داخل قاعة واحدة، وهي الخطوة التي كانت مستبعدة تماما في ضوء التصعيد الكلامي الكبير بين الجانبين، لا سيما بعدما كال أرسلان اتهامات اتسمت بالحدة بحق جنبلاط بتدبير "كمين مسلح" في الجبل ومحاولة اغتيال وزير شئون النازحين صالح الغريب (ممثل أرسلان في الحكومة) في الوقت الذي اعتبر فيه جنبلاط أن هناك محاولة ممنهجة لحصاره وإضعاف زعامته السياسية للطائفة الدرزية يضطلع بها حزب الله والتيار الوطني الحر والحزب الديمقراطي اللبناني وقوى إقليمية أخرى. وبدا لافتا غياب أطراف محورية أخرى في الأزمة عن اجتماع قصر بعبدا، من بينها وزير شئون النازحين صالح الغريب الذي كان قد قال إن سيارته تعرضت ل 18 طلقة نارية خلال تلك الأحداث، وكذلك وزير الخارجية جبران باسيل الذي قال الرئيس ميشال عون قبل أيام قليلة في تصريح له إن حادثة الجبل كانت "كمينا أُعد لباسيل" ، إلى جانب وزير التربية والتعليم أكرم شُهيب المنتمي للحزب التقدمي الاشتراكي. وشهدت الأزمة طيلة 40 يوما سقفا عاليا من المطالب ومواقف شديدة الحدة وعالية النبرة من كافة الأطراف، خاصة في ما يتعلق بتمسك فريق باسيل – أرسلان (وبدعم قوي من حزب الله) بإحالة مجلس الوزراء لوقائع حادثة الجبل إلى المجلس العدلي، والذي يعد بمثابة محكمة استثنائية تنظر في القضايا شديدة الخطورة التي تمس أمن الدولة اللبنانية، وتحميل الوزير أكرم شُهيب المسئولية عن الحادثة والمطالبة باتخاذ إجراء سياسي وقضائي ضده. وقوبل هذا الطرح برفض قاطع من الحزب التقدمي الاشتراكي الذي حظي بدعم من رئيس الوزراء سعد الحريري ورئيس المجلس النيابي نبيه بري وحزبي القوات اللبنانية والكتائب اللبنانية وتيار المردة. واعتبر "الاشتراكي" أن فريق الخصم في أحداث الجبل ينفذ مخططا لتطويق الحزب وضرب وجوده في الجبل وزعامته السياسية للدروز، ويستخدم نفوذه للضغط على القضاء والمحاكم بغية "اصطناع وتلفيق اتهام سياسي" ضد الحزب. وجاء الموقف الأكثر حدة من الوزير جبران باسيل مساء الأربعاء لدى وضع حجر الأساس للمقر الجديد للتيار الوطني الحر، حيث وصف الحزب التقدمي الاشتراكي ب "الميليشيا المسلحة المرتبطة بدول أجنبية". على حد تعبيره ، وهو التصريح الذي أشعل مواجهات كلامية نارية وخلق تصعيدا فوق التصعيد القائم وقتها. وأجمعت مصادر سياسية مواكبة لتطورات الوضع اللبناني على أن الوضع الاقتصادي والمالي الذي بلغ مرحلة متقدمة من التعقيد والدقة والتدهور، وقرب موعد إطلاق وكالة ستاندرد آند بورز الدولية لتقريرها في شأن التصنيف الائتماني للبنان، مثّل أحد الأسباب وراء إعطاء الزخم وإعادة إحياء مبادرة رئيس مجلس النواب نبيه بري للمصالحة والتوافق بين الفرقاء السياسيين في حادثة الجبل. في حين انقسمت آراء المصادر السياسية حول تلك الدفعة المفاجئة لمبادرة "بري" التي أفضت إلى المصالحة، ما بين من عزاها إلى تراجع مفاجىء من جانب حزب الله عن موقفه القوي في دعم باسيل وأرسلان في هذه الحادثة، وإبلاغه "بري" بدعم جهوده نحو تحقيق المصالحة، وبين من اعتبر أن التقدم سببه البيان غير المتوقع الصادر عن الولاياتالمتحدةالأمريكية قبل يومين عبر سفارتها في بيروت، والذي شددت فيه أنها تدعم إجراء معالجة قضائية عادلة وشفافة ودون أي تدخل سياسي، في أحداث عنف الجبل، ورفضها أي محاولة لاستغلال الحادثة بهدف تعزيز أهداف سياسية، وأنها أبلغت السلطات اللبنانية ، بصورة واضحة ، أنها تتوقع أن يتم التعامل مع هذه الأزمة بطريقة تحقق العدالة دون تأجيج نعرات طائفية ومناطقية بخلفيات سياسية. ومن المقرر ألا يتم التطرق خلال اجتماع مجلس الوزراء الذي سيعقد صباح الغد في قصر بعبدا الرئاسي ، وهو الأول منذ اندلاع الأزمة ، إلى حادثة الجبل، وأن يكون محور الاجتماع الحكومي الواقع المالي والاقتصادي وكيفية معالجته، تجنبا للدخول في سجالات سياسية تعيد إنتاج التوتر والخلافات.