لعل ابتسامة هذا الأب الثقافي المصري العظيم تتسع بكل عذوبتها في الأسبوع الأخير لمعرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الخامسة والأربعين، فيما لروح عميد الأدب العربي ورائد التنوير الدكتور طه حسين ان تطمئن وتحلق راضية مرضية في ضوء الاقبال الكبير والملحوظ من الشباب على كتبه وأعماله الثقافية الخالدة. وكانت الهيئة المصرية العامة للكتاب قد طرحت باقة متنوعة من البستان الثقافي لعميد الأدب العربي وصاحب "مستقبل الثقافة في مصر" بمناسبة اختياره شخصية معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الخامسة والأربعين الذي يستمر حتى السادس من شهر فبراير الحالي تحت شعار "الثقافة والهوية"، وأعادت طبع 20 كتابا من أعمال الدكتور طه حسين. ومع أن التوقعات الخاصة بالترشيحات للانتخابات الرئاسية تبدو واضحة حتى في أجواء معرض القاهرة الدولي للكتاب والأحاديث الجانبية بين زوار المعرض وتعليقات رواده، فإن شمس عميد الأدب العربي وصاحب كتاب "من بعيد" بدت أيضا ساطعة في شتاء هذا العام بأكبر معرض في العالم العربي للكتاب والذي بات أهم احتفالية وحدث ثقافي على مدار العام بمصر. ولن يكون من الصعوبة بمكان على أي حال ايجاد الكثير من الروابط بين أفكار طه حسين وتصوراته كأحد كبار الآباء الثقافيين المصريين وبين راهن اللحظة المصرية وهموم المصريين وآمالهم وأشواقهم لغد أفضل بعد طول معاناة. وفيما تضيء كتب طه حسين المعرض الدولي للكتاب في نسخته ال45 وتتألق عناوينه مثل "تقليد وتجديد"، و"قادة الفكر"، و"نقد واصلاح"، و"مرآة الضمير الحديث"، فإن للعين أن تلحظ الشباب الذين أقبلوا على شراء هذه الكتب في وقت اجتازت فيه مصر أزمة عاتية طالت هوية الوطن ووجود الدولة التي تعد الأقدم في التاريخ. والهوية كانت دوما في صميم اهتمامات عميد الأدب العربي وصاحب "الأيام" و"جنة الشوك" تماما، كما أن مستقبل مصر كان في عين اهتماماته البصيرة وهو بلا جدال أحد رواد التنوير وثقافة دولة المواطنة والحريات والحقوق الديمقراطية، ولعل روحه ترفرف الآن بسعادة على وطنه ومعرض الكتاب الذي شرف باسمه هذا العام بعد أن صوت المصريون في استفتاء حر لصالح دستور يتسق الى حد كبير مع المنظومة الثقافية-الحضارية التي تبناها الدكتور طه حسين. وكان معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي يصل عدد المشاركين في دورته الحالية الى 755 ناشرا عربيا وأجنبيا قد شهد ندوة عنوانها "طه حسين رائد التنوير" حضرها الناقد ووزير الثقافة الأسبق الدكتور جابر عصفور والمفكر والكاتب المصري الكبير السيد ياسين. واذا كان حضور "حواء" ظاهرا في معرض القاهرة الدولي للكتاب، فيما تتألق الأجنحة المختلفة للمعرض باقبال الشابات على كتب متعددة الألوان في رحاب الثقافة المصرية والعربية والعالمية، فإن هذا الحضور للجميلات لابد وأن يسعد عميد الأدب العربي الذي كان من كبار المدافعين عن حقوق المرأة وفي مقدمتها الحق في التعليم وكان يرى أن اتاحة التعليم الجيد هو الطريق للنهضة الحقة. من يتجول بين أجنحة وأروقة وفضاءات معرض القاهرة الدولي للكتاب هذا العام سيلاحظ ان اهتمامات الزائرين لا تختلف باختلاف النوع بين ذكور واناث، فالكل يتطلع ويترقب مرحلة مصرية جديدة تتعامل بحسم مع ملفات حرجة وبالغة الأهمية مثل الوضع الاقتصادي والبطالة والارهاب والمشهد الاقليمي المضطرب. واذا كان هذا المشهد يكشف بوضوح في أحد أهم أبعاده عن خطورة تغييب الحرية باسم الدين والدين براء من هذا العدوان على الحرية، فإن جذور المأساة كما توغل فيها طه حسين وغيره من الآباء الثقافيين المصريين المعاصرين تضرب في تاريخ بعيد. تاريخ سعى فيه البعض "للاستثمار السياسي للدين" وتوظيفه لصالح الاستبداد بما يحقق مكاسب دنيوية لهذا الفصيل أو ذاك من المتشحين بشعارات دينية في لعبة السياسة والسلطة.. فالقضية الجوهرية في ربوع العالم الاسلامي ودوله هي العدوان على الحرية والعدل معا بتوظيف للدين معاد لجوهر هذا الدين العظيم، ومن ثم كان للمفكر المصري طه حسين صاحب "المعذبون في الأرض" ان يحاول حل هذه الاشكالية برؤية فحواها تحرير العقل المصري عن طريق التعليم وان يطلق فيما بعد شعاره الخالد عن التعليم الذي هو كالماء والهواء. وكما ذكر الدكتور جابر عصفور فإن فكر طه حسين يتأسس على العقلانية والحرية والنزعة الانسانية والنظرة المستقبلية، فيما أكد دوما على أن العلم لا يزدهر إلا في مجتمع حر، كما أن العدل لا يكتمل إلا بالجانب المعرفي. وبعد سنوات من عصر طه حسين صاحب "الفتنة الكبرى" الذي ولد يوم 14 نوفمبر عام 1889 وقضي يوم 28 اكتوبر عام 1973 مازالت الاشكالية قائمة، سواء في مصر أو غيرها من دول العالم الاسلامي.. انه العنف الذي تمارسه فئة ظلامية باسم الاسلام وفي المقابل فإن مواجهة هذا العنف تشكل ضمن ما تشكله من استجابات غضبة للاسلام وغضب على جماعات العنف المسلح التي تتاجر بالاسلام. وطه حسين ابن قرية "الكيلو" في صعيد مصر نموذج للمثقف المهموم بأحوال مجتمعه والساعي دوما لتشخيص وجيعة مصر، فيما لم يتنازل أبدا عن ايمانه الراسخ بقيم الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية ودعوته للدولة المدنية الحديثة التي تعلي من مكانة العلم باعتباره السبيل لارساء دعائم الحداثة. وفيما يتضمن المعرض كتابا بعنوان دال للمفكر المصري السيد ياسين هو "الزمان الثوري"، فلعلها لحظة غير عادية حقا تلك اللحظة المصرية الراهنة التي تتضمن معرض القاهرة الدولي للكتاب كحدث ثقافي بات الأهم في الحياة الثقافية بأرض الكنانة بقدر ما تبدو أفكار طه حسين صاحب "دعاء الكروان" حاضرة هذه اللحظة بدلالات التلاحم الوطني واستدعاء مواقف تاريخية توحد فيها شعب مصر في مواجهة تحديات جسام. فالحزن ليس قدر مصر والأمة وليس من المطلوب البحث عن دليل "المسلم الحزين في القرن الواحد والعشرين"، كما أنه ينبغي التأكيد على أن المظالم التي ترتكبها الأنظمة هي أكبر خدمة تسديها هذه الأنظمة للجماعات الظلامية التي تتقاتل معها. ولعل طه حسين ببصيرته الوثابة ورؤيته الثاقبة كان يشير إلى هذه القضية عندما ألح على اهمية اعتماد المبدأ الديمقراطي داخل المجتمع الذي لا يسمح بنظام الغالب والمغلوب بقدر ما لفت دوما لأهمية الانفتاح على ثقافات العالم. وكما لاحظ معلقون، فإن معرض القاهرة الدولي للكتاب هذا العام جاء "صيحة مصرية هادرة ضد التعصب والانغلاق والفرقة والتمييز"، ولن تغيب الابتسامة الحانية لعميد الأدب العربي وروحه الوثابة تحلق في هذه التظاهرة الثقافية وترى اصدارات الأحفاد من شباب مصر تتناول من زوايا وجوانب متعددة الثورة الشعبية المصرية بموجتيها 25 يناير-30 يونيو، فيما ازدهرت هذا العام "كتب الجرافيتي" والكتب المصورة التي توثق لهذه الثورة. وقال الدكتور جابر عصفور ان صائغي دستور 2014 كانوا يكتبون بروح طه حسين، لافتا لما يتضمنه هذا الدستور من حريات وهو يعد تحقيقا لحلم طه حسين القديم، بينما وصف السيد ياسين عميد الأدب العربي بأنه "نهر في المنهج النقدي التقويمي"، موضحا ان كتاباته الاسلامية "توطد انتصار حركة التنوير والتثقيف الاسلامي". وفيما يشد العنوان اللافت للكتاب الجديد للمفكر المصري الدكتور جلال أمين "محنة الدنيا والدين في مصر" أعين العديد من زوار معرض القاهرة الدولي للكتاب، فإن "العلمانية"، أو هذا المصطلح الذي نقل من السياق الثقافي-الحضاري الغربي للسياق الثقافي-الحضاري الاسلامي، يمكن وصفه حقا "بالمصطلح اللعين" لأنه أثار ارتباكات وخلق اضطرابات وصنع التباسات ما كان لها ان تحدث وان يكابدها العالم الاسلامي. نعم لولا هذه الكلمة التي نقلت من بيئة لبيئة مغايرة دون ادراك لدلالتها هنا وهناك ومغزاها الذي يختلف بالضرورة مع الاختلاف الكبير في السياقات الثقافية-الحضارية وأهمها أن الاسلام لا يعرف سلطة لكهنوت خلافا لما عرفه الغرب، وهذا ما أدركه طه حسين مبكرا عندما اطلع تاريخيا على ما كان يمارسه ملوك أوروبا وحكامها من تسلط باسم الدين. عرف طه حسين صاحب "على هامش السيرة"، و"حديث الأربعاء"، و"الوعد الحق"، و"الشيخان"، الذي درس في الأزهر ثم في الجامعة المدنية، ان نظام الحكم في المجتمع الاسلامي لا يعرف ما يوصف في الغرب "بالحكم الثيوقراطي" الذي يزعم لنفسه الحكم باسم السماء وهو مفهوم أدى لرد فعل مضاد في الغرب تمثل في العلمانية التي تقضي بفصل الدين عن الدولة. ومن هنا فالفارق أيضا كبير على مستوى الدلالات والمفاهيم بين مصطلح "الدولة العلمانية" القادم من الغرب ومصطلح "الدولة المدنية" التي ناضل من أجلها طه حسين معتبرا أن الحل لكثير من مشكلات مصر يكمن في تغليب مفهوم الدولة المدنية وان جوهر الحكم في الاسلام هو الحكم المدني البعيد عن أي صبغة استبدادية بتلاوين الاستبداد ومن بينها الحكم باسم السماء. ان صيحة :"اننا نعرف كيف نكافح وكيف ندافع عن حقوقنا"، هي ابنة شرعية لكفاح الآباء الثقافيين في العالم الاسلامي وفي الطليعة يشمخ عميد الأدب العربي طه حسين والمناضل الصلب من أجل الدولة المدنية الديمقراطية. دولة: الشعب فيها هو مصدر السلطات ودولة تحمي الحريات ومن بينها حرية الفكر والعقيدة والرأى.. ودولة تكفل العدالة والمساواة بين ابناء الوطن الواحد وحتى يشعر كل فرد، كما قال طه حسين بأنه خلق للعزة لا للذلة وللقوة لا للضعف وللسيادة لا للاستكانة. تحية لروح الأب الثقافي طه حسين وكل الآباء الثقافيين لمصر.. مكانكم ومكانتكم في قلوب وعقول المصريين كما تجلى في معرض القاهرة الدولي للكتاب.. مصر على الدرب والعهد مهما يمر الزمان وتنأى المسافات.. مصر تحيل بعبقريتها جراحها نورا وما هوى نجمها ولا ذوى!