رغم أن الهجوم الإرهابي، الذى استهدف مسجدى «النور» و«لينوود» فى مدينة «كرايست تشيرتش» فى نيوزيلندا، تجاوز فى وحشيته كافة الحدود، إلا أن هذا لم يمنع سياسيين من تبرير هذه المجزرة، أو الامتناع عن وصفها بالإرهابية، بل إن البعض قام باستغلالها لتحقيق أهداف سياسية، وهو ما شكل «فضيحة أخلاقية» قد تكون أشد وطأة على نفوس ذوى الضحايا من الجريمة فى حد ذاتها. ففى تقرير لها فى 19 مارس، بعنوان «لماذا أصر أردوغان على عرض فيديو هجوم نيوزيلندا؟»، قالت شبكة «بى بى سي» البريطانية، إن مقطع الفيديو الذى بثه منفذ المجزرة فى نيوزيلندا قوبل بإدانة واسعة حول العالم، وحُذف من منصات وسائل التواصل الاجتماعي، لكن الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، فاجأ الجميع باستغلال هذا الفيديو خلال لقاءاته الجماهيرية مع الناخبين قبل الانتخابات المحلية المقررة فى تركيا فى 31 من الشهر الجاري. وأضافت الشبكة أن أردوغان، قام يوم الأحد الموافق 17 مارس بقطع خطابه فى ولاية تكيرداغ غربى تركيا، وطلب من الحشود مشاهدة فيديو المجزرة عبر شاشة كبيرة تم وضعها فى مكان بارز، ولم يكتف بما سبق، بل إنه بعد انتهاء عرض الفيديو، استأنف خطابه، قائلا: «كل زعماء العالم حتى الأممالمتحدة قالوا إن هذا اعتداء على الإسلام والمسلمين، لكن لم يقولوا إن المهاجم إرهابى مسيحي». وأضاف «لو كان المهاجم مسلما، لكانوا وصفوه فورا بأنه إرهابى مسلم». ولم يكتف أردوغان بما سبق، بل أعلن أن تركيا ستجعل منفذ الهجوم «يدفع ثمن جريمته» إن لم تفعل نيوزيلندا، ووصف هذا الهجوم بأنه جزء من هجوم أكبر على تركيا والإسلام، وحذر أيضا من أن الأستراليين الذين سيكونون معادين للإسلام سيلقون نفس مصير الجنود الأستراليين الذين قُتلوا بأيدى القوات العثمانية فى معركة غاليبولي، خلال الحرب العالمية الأولى، حسب ادعائه. وقالت «بى بى سي» إن أردوغان حاول استغلال الهجوم على المسجدين للترويج أنه «حامى المسلمين»، لرفع شعبيته وحشد الدعم لحزبه «العدالة والتنمية» فى الانتخابات المحلية. ويبدو أن الرياح جاءت بما لا يشتهى أردوغان، إذ سرعان ما انهالت عليه الانتقادات من داخل تركيا وخارجها لاستغلاله مأساة مسلمى نيوزيلندا فى دعاية انتخابية، حيث سارع ناطق باسم حزب الشعب الجمهورى المعارض فى تركيا لاتهامه باستغلال فيديو المجزرة لتحقيق مكاسب سياسية، وهو الموقف الذى عبر عنه أيضا، وزير الخارجية النيوزيلندى وينستون بترز، الذى أعلن أنه تحدث إلى المسئولين الأتراك، معربا لهم عن شعوره بالصدمة من استغلال الفيديو لأغراض سياسية، هذا فيما دعا رئيس الوزراء الأسترالي، سكوت موريسون، إلى استدعاء السفير التركى لدى بلاده، مطالبا بحذف تصريحات أردوغان من وسائل الإعلام التركية الرسمية. وقال موريسون للصحفيين فى العاصمة الأسترالية كانبرا «سأنتظر لأرى رد الفعل من الحكومة التركية قبل اتخاذ المزيد من الخطوات، لكن جميع الخيارات مطروحة على الطاولة»،مشيرا إلى أن أستراليا تدرس تحذير مواطنيها من السفر إلى تركيا. وزاد من حدة الانتقادات لأردوغان، أنه أصر على عرض الفيديو المروع لمجزرة المسجدين فى نيوزيلندا، فيما سارعت شبكات التواصل الاجتماعى إلى إزالة الفيديو بعد تعالى الأصوات المنادية بفرض مزيد من القيود على ما يتم نشره عبر هذه الشبكات، بعد أن ثبت منفذ المجزرة على رأسه كاميرا، وتمكن من بث الهجوم بشكل مباشر عبر «فيسبوك»، لإحداث أكبر قدر من الدعاية لأفكار اليمين المتطرف، من جهة، وبث الخوف والرعب فى صفوف الجاليات المسلمة فى الغرب من جهة أخرى. وجاءت مواقف رئيسة وزراء نيوزيلندا، جاسيندا أرديرن، التى نالت إعجاب العالم بأسره، لتحرج أردوغان أكثر أمام شعبه وأمام العالم، فقد تصرفت بإنسانية منقطعة النظير مع مأساة المسلمين، وارتدت الحجاب لإظهار تضامنها معهم، ووعدت بعدم ذكر اسم مرتكب المجزرة أبدا لكى لا تحقق له رغبته فى الشهرة، بجانب وجودها مع أهالى الضحايا ومواساتها لهم، ومخاطبتها لهم بلغتهم، وإعلانها عن بث الأذان على الهواء مباشرة عبر الإذاعة والتليفزيون يوم الجمعة الموافق 22 مارس، فى ذكرى مرور أسبوع على المجزرة، بالإضافة إلى إدانتها الفورية للهجوم على المسجدين على أنه «إرهاب»، على عكس ما كان يحدث فى السابق فى اعتداءات مماثلة على المسلمين فى الغرب، والتى كان يتجنب فيها الساسة هناك وصف هذه الاعتداءات بالإرهاب. ويبدو أن مواقف جاسيندا أرديرن أحرجت أيضا الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، الذى تجنب وصف مرتكب المجزرة بالإرهابي، ووصفته بعض وسائل الإعلام الأمريكية بأنه يتحمل جزءا من المسئولية عن هذه المجزرة، بسبب تصريحاته العنصرية ضد المسلمين خلال حملته الانتخابية وإجراءاته ضدهم بعد وصوله للبيت الأبيض، خاصة منعه مواطنى سبع دول إسلامية من دخول الولاياتالمتحدة، كما شكلت مواقف جاسيندا صفعة للسيناتور الأسترالي، فرايزر أنينغ، الذى نشر بيانا على «تويتر» فى 15 مارس بعد ساعات من وقوع المجزرة، ألقى فيها اللوم على الإسلام والمسلمين، قائلا: «السبب الحقيقى لإراقة الدماء فى نيوزيلندا هو برنامج الهجرة الذى سمح للمسلمين بالهجرة إليها، لنكن واضحين، ربما يكون المسلمون ضحية اليوم، لكن فى العادة هم المنفذون». ورغم أن هناك جهودا متسارعة فى نيوزيلندا لاحتواء تداعيات مجزرة المسجدين، إلا أن هناك قلقا فى الغرب، من احتمال وقوع هجمات إرهابية جديدة سواء من التنظيمات الإسلامية المتشددة، أو من اليمين المتطرف، ولعل ما يضاعف المخاوف فى هذا الصدد، أن التنظيمات الإسلامية المتشددة وجدت فيما يبدو فى المجزرة فرصة سانحة لاستقطاب المزيد من العناصر المتشددة، عبر نشر البيانات، التى تتحدث عما تسميه الحرب الصليبية الجديدة على الإسلام، كما أن داعش لن يجد أفضل من هذه المجزرة لتعويض النقص فى صفوفه بعد مقتل الكثير من عناصره، فى العراقوسوريا، وذلك عبر محاولة اختراق الجاليات المسلمة فى أوروبا، لتجنيد بعض الشباب الناقمين على تهميشهم وتصاعد العنصرية ضدهم. ففى 18 مارس، بث المتحدث باسم داعش أبوالحسن المهاجر، رسالة مسجلة، عبر منابر التنظيم على التليجرام، قال فيها إن مشاهد القتل فى مسجدى نيوزيلندا ستوقظ من سماهم «الجهاديين النائمين وستحفز أنصار الخلافة على الثأر»، وأنهى تسجيله بقوله: «انتظروا بحورا من الدماء»، حسب زعمه، كما وصفت بيانات أخرى على مواقع جماعات متشددة أخرى على التليجرام المجزرة بأنها جزء من الحملة الصليبية الجديدة ضد الإسلام والمسلمين، حسب زعمها، ودعت بعض هذه البيانات إلى شن هجمات انتقامية فى الغرب. وحسب تقرير نشره فى 20 مارس مرصد «الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة» التابع لدار الإفتاء المصرية، فإن جماعة أنصار الدين الموالية لتنظيم القاعدة فى سوريا قالت إن مثل تلك الهجمات تسلط الضوء على ماسمته «العداوة العميقة التى تمثلها الدول الصليبية والصهاينة ضد المسلمين»، فيما توعدت حركة الشباب الصومالية المرتبطة بالقاعدة بالانتقام مما حدث فى المسجدين. وبالنسبة لليمين المتطرف، فإن ظاهرة «الإسلاموفوبيا»، أو العداء للمسلمين فى الغرب، ليست جديدة، ولكن الأخطر فى مجزرة المسجدين أن هذه الظاهرة انتقلت من البيانات التحريضية والأعمال الفردية والهجمات المحدودة إلى الهجمات المنظمة والأكثر دموية واتخذت شكلا إرهابيا مسلحا، وبالنظر إلى أن مرتكب المجزرة برر هجومه بما سماه منع المسلمين وغير البيض من السيطرة على المجتمع الغربي، فإنه ينتشر قلق واسع بين الجاليات المسلمة فى الغرب من أن هذه المجزرة قد لا تكون الأخيرة، فيما تتصاعد التحذيرات فى بعض وسائل الإعلام الغربية من أن اليمين المتطرف أصبح أكثر خطورة عن السابق. ففى 16 مارس، قالت صحيفة «الجارديان» البريطانية إن «كلا من اليمين المتطرف والإسلاميين المتشددين يعتقدون بأن مجتمعاتهم تواجه تهديدا وجوديا، ما يفرض على كل فرد التزاما بالقتال لدفعه»، موضحة أن اليمين المتطرف فى فى الغرب فى تصاعد وقد يكون أكثر تهديدا من التطرف الإسلامي، وأوضحت الصحيفة أنه فى 2017، وقعت 5 هجمات إرهابية فى بريطانيا نسبت إلى اليمين المتطرف، وفى أمريكا، كان نشاط اليمين المتطرف العنيف له علاقة بقتل 50 شخصا على الأقل عام 2018. وتابعت الصحيفة، أنه خلال العقد الماضي، يمكن الربط بين 73.3 فى المائة من كل أعمال القتل المرتبط بالتطرف فى الولاياتالمتحدة وبين المتطرفين اليمينيين المحليين، بينما نسب 23.4 فى المائة فقط من هذه الأعمال إلى المتطرفين الإسلاميين». وبدورها، انتقدت صحيفة «الفايننشال تايمز» البريطانية فى افتتاحيتها فى 16 مارس تجاهل الغرب صعود اليمين المتطرف لفترة أطول من اللازم، وقالت إن أتباع اليمين المتطرف يستمدون القوة من بعض السياسيين فى الديمقراطيات الغربية، وقد حولوا أيضا وسائل الإعلام، جديدها وقديمها، إلى أسلحة، وتابعت «لم يعد يمكننا أن نقلل من شأن أيديولوجيتهم الخطيرة أو العوامل التى تقف وراء انتشارها». وفى السياق ذاته، قالت صحيفة «التايمز» البريطانية إن الهجوم الإرهابى الذى نفذه الأسترالى برينتون تارانت «28 عاما»، على مسجدى «النور» و«لينوود» فى مدينة «كرايست تشيرتش» فى نيوزيلندا يوم الجمعة الموافق 15 مارس، والذى خلف 50 قتيلا وعشرات المصابين، هو «ثمار التعصب»، و«مثال على ثقافة كراهية الأجانب السامة التى تنمو مع وسائل الدعاية الرقمية». وفيما يعزو البعض انتشار اليمين المتطرف فى الغرب إلى تصاعد عمليات تنظيم داعش الإرهابية التى هزت أوروبا فى السنوات الأخيرة ورافقها وصول الرئيس الأمريكى دونالد ترامب إلى السلطة وتبنيه خطابا معاديا للمسلمين فى حملاته الانتخابية، إلا أن تصاعد وتيرة الإرهاب كان بمثابة طوق النجاة لأحزاب اليمين المتطرف فى أوروبا وأمريكا، حيث وجدت فيها ملجأ ومتنفسًا لتقديم نفسها من جديد، ما زاد شعبيتها فى الخمس سنوات الأخيرة، وهو ما تجسد فى صعود أسهمها فى فرنساوبريطانياوألمانيا وغيرها من دول أوروبا، ثم اليوم فى الولاياتالمتحدةالأمريكية، إلا أن هناك من يربط الظاهرة بإرث تاريخى من تفوق الجنس الأبيض والتمييز العنصرى ضد الآخر، وأن غير الأوروبى يوصف بالتخلف، وهذا الفكر المتطرف يعود إلى الحقبة الاستعمارية، وفى العشرينيات، وصلت أحزاب اليمين المتطرف للحكم، ورغم اختلاف بعض أسباب وصول الفاشية فى إيطاليا فى عام 1922 عن النازية فى ألمانيا التى وصلت للحكم عام 1933، إلا أن السبب المشترك بينهما هو الأزمة الاقتصادية الطاحنة التى تعرضت لها إيطاليا بسبب الدخول فى الحرب العالمية الأولى، وألمانيا بسبب التعويضات الكبيرة التى أصبحت مطالبة بها بعد الحرب العالمية الأولى، وفى السنوات الأخيرة، وبعد تزايد الهجرة من الشرق الأوسط وأفريقيا وانخفاض معدلات النمو الاقتصادى وارتفاع معدلات البطالة وضعف الثقة فى الطبقة السياسية التقليدية، وترويج البعض لما يطلق عليه صراع الحضارات وفشل الحكومات الأوربية فى حل أزمة اندماج المهاجرين فى مجتمعاتها وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، فقد ظهر فيما يبدو جيل جديد من اليمين المتطرف أكثر خطورة وتنظيما عن السابق، يصر على تفوق الجنس الأبيض ومعاداة المهاجرين، خاصة المسلمين، الذين يزعمون أنهم «غزاة»، ويجب طردهم وحتى قتلهم.