قلنا ونكرر أن الفتوى اجتهاد بشرى يقبل الصواب والخطأ، لكن البعض يتعامل معها كما لو كانت كلامًا منزلًا من لدن ربٍ حكيم، ولعل ذلك أدى إلى تأخر أمتنا العربية سنوات وقرون بسبب فتاوى ما أنزل الله بها من سلطان، ومنها تلك الفتوى الغريبة التى ظهرت مع ظهور مشروب القهوة فى العالم الإسلامى بداية القرن السادس عشر وانتقالها من اليمن إلى مصر والحجاز. دارت معركة فقهية حامية الوطيس تخللها أحداث شغب عارمة. واستمر تحريم القهوة زهاء قرنين شهدا جدلًا صاخبًا حول تحريم القهوة، بدعوى أنها مسكرة ومفسدة للعقل والبدن وخطرها أشد من الخمر، كما يقول الباحث ثروت البطاوى. وانتقلت معركة القهوة الفقهية إلى القاهرة ومنها إلى عاصمة الدولة العثمانية، فصدرت الفتاوى والأوامر السلطانية بتحريم ومنع شرب القهوة وطارد رجال الأمن شاربيها. فيما يؤكد الباحث حسين الوادعى أن تصدير اليمنيين للبن إلى أرجاء العالم الإسلامى أثار من المعارك ما لم يكن فى الحسبان، حتى استمرت المعركة ضد القهوة نحو 400 سنة. ويعود اكتشاف القهوة العربى إلى مشايخ الصوفية اليمنيين. ويرجح البعض أن الصوفى العدنى أبوبكر بن عبدالله العيدروس كان من أوائل مستخدميها. وانقسم علماء اليمن بين محلل ومحرم لشرب القهوة، ورأى من حرموها أنها مسكرة ومنافية للمروءة. انتقلت القهوة من اليمن إلى مكة عبر التجار والحجاج اليمنيين. وقد تحدثت كتب التاريخ عن «واقعة مكة» عام 1511م عندما وجد حاكم مكة فى نهاية العهد المملوكى، جمعًا من الناس يشربون كئوس القهوة بجانب المسجد الحرام، فاستصدر فتوى لتحريمها وأمر بجلد بائعها وشاربها وطابخها وشاريها وحرق مخازن البن وإغلاق المقاهى فى المدينةالمنورة، وثار جدل فقهى أدى إلى تحريمها واعتبارها خمرة مسكرة. بل اخترع بعض الفقهاء احاديث ونسبوها للرسول على شاكلة: «قال رسول الله (ص) من شرب القهوة يحشر يوم القيامة، ووجهه أسود من أسافل أوانيها»! واضطر الناس إلى شرب القهوة فى السر. وكانت العامة تهاجم المقاهى وتحطمها باعتبارها خمارات وأماكن للرذيلة. وتفنن الفقهاء فى تحريم القهوة وأماكن شربها فقالوا إنه لا يجلس فى مجالس القهوة إلا أراذل الناس وأنها مضرة بالصحة ومذهبة للعقل وخارمة للمروءة، وقالوا إنها تساعد على السهر ما يؤدى إلى إضاعة صلاة الفجر. ومن اليمن إلى مصر. بعد أن أخذها المصريون عن الطلبة اليمنيين الذين كانوا يتعاطونها فى رواق اليمنيين بالأزهر. وأفتى الفقيه الشافعى أحمد بن عبدالحق السنباطى بحرمتها، لأنها من المؤثرات على العقل. وأطلق يد أتباعه للبطش بتجار البن وبائعيه وشاربيه وأماكن شربه. وكانت نقطة التحول عندما قتل اتباعه أحد تجار البن ما أثار غضب التجار، الذين حاصروه فى المسجد، وأقاموا مجلس قهوة خارجه، واستقبلوا العزاء فى روح التاجر الراحل على قرع أنخاب القهوة لمدة 3 أيام. وبذلك تم تحليل القهوة فى مصر بعد 200 سنة من التحريم. أما فى عمان فظل بعض الفقهاء يحرمها حتى القرن التاسع عشر الميلادى.