في زمن أرغفة ثلاثة لكل مواطن، وكوبونات لأنبوبة الغاز والبنزين، يبدو التعرف على أوجاع وهموم المصريين، وتأصيل الوعي باهتماماتهم ومطالبهم، ناصية مهمة، تشد انتباه الباحثين على اختلاف توجهاتهم، وتستثير فيهم تصورات وأفكارًا يجدر التوقف عندها. ويلفت النظر خلال الفترة الماضية صدور أكثر من عمل حول هذه الأوجاع. منها دراسة تقوم على استطلاع رأي عينة من المواطنين، ظهرت مؤخرًا عن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، بعنوان :“,”هموم واهتمامات المواطن – استطلاع للرأي“,”، وأشرفت عليها د. ناهد صالح، المستشارة بالمركز. ونتوقف هنا عند منهجية هذه المساهمة، عبر تعيين أهدافها وتقنياتها وأساليب تحليلها، حيث تتحدد أهدافها في استطلاع آراء عينة من المصريين حول همومهم واهتماماتهم، والقضايا والموضوعات التي تشغل اهتمامهم، سواء منها ما يتعلق بالشأن العام أو الخاص، بحسبانها الخطوة الأولى والخلفية الأساسية التي يضعها أصحاب القرار في اعتبارهم، عند صوغ السياسات ووضع الخطط والبرامج واتخاذ الحلول اللازمة، إدراكًا بأن استجابة المواطنين، وتفاعلهم الإيجابي مع هذه السياسات وتلك الخطط والبرامج، تتوقف إلى حد كبير على هذه المعرفة. وفي محاولة لتحقيق أهداف هذا الاستطلاع، تم اختيار استمارة استبار، جمعت بياناتها من المستجيبين عن طريق المقابلة الشخصية، وحوت تساؤلاتها محاور خمسة: هموم واهتمامات المواطن المصري كما تجسدها رؤيته، الصورة الذهنية لديه عن بعض مؤسسات الدولة (مجلس الشورى، الحكومة، الإدارة المحلية، الشرطة، القضاء، الأحزاب السياسية، والصحافة)، وعن بعض الفئات الاجتماعية (المرأة، الشباب، العامل، الموظف، المدرس، أستاذ الجامعة، رجال الأعمال، ورجال الدين)، وأخيرا طموحاته وإخفاقاته، ومدى رضاه وسعادته. والعينة في هذه المساهمة عشوائية، تضم (3562) مستجيبًا، روعي في تصميمها أن تمثل متغيرات الإقامة (ريف، حضر) والنوع (ذكور، إناث) والسن (شباب، كبار) والتعليم (أميين، متعلمين) والحالة الزواجية والمهنية. وإذا كنا لسنا في وارد رصد تفصيلي لجميع النتائج التي توصلت إليها الدراسة فقد يتحدد المسعى هنا برصد خطوطها العريضة، بدءًا من محورها الأول حول أهم الهموم التي يعاينها المواطن المصري، حيث برزت البطالة في المقدمة، تلاها ارتفاع الأسعار، وقلة الدخل، والإسكان، وسوء الأحوال الاقتصادية، فيما انخفضت نسبة من ذكروا المشكلات السياسية والتعليمية والسلوكية والبيئية والصحية والعائلية. وحول الصورة الذهنية لبعض مؤسسات الدولة، بدت صورة مجلس الشورى سلبية (غير فعال، صوري، يعمل لمصلحة أغلب أعضائه، تصفيق ونفاق...) فيما انخفضت نسبة الاستجابات الإيجابية للحكومة والشرطة وإعلام الدولة. وعن بعض الفئات الاجتماعية، بدت الصورة إيجابية حول المرأة العاملة ورجل الدين وأستاذ الجامعة، وسلبية بإزاء الشباب والعامل والموظف ورجل الأعمال. أما الاحتياجات والرغبات التي استطاع المواطن إشباعها أو تحقيقها، فقد حظي الزواج والإنجاب وتربية الأبناء وتعليمهم بأعلى نسبة، وجاء التقدم الدراسي في المرتبة الثانية، تلاه تحسين الدخل وتوفير المسكن، على حين كان الحصول على عمل أول الاحتياجات التي يتمكن من تحقيقها، وأداء العمرة أو الحج على قائمة ما يرغب في تحقيقه، وأبدى قرابة ربع العينة، وثلثي الشباب منها، رغبته في الهجرة إلى الخارج. وبعد أن عبّر المبحوثون عن همومهم ورغباتهم، انتهى الاستطلاع بسؤالهم عن مدى شعورهم بالسعادة، فذكر أغلبهم أنهم ليسوا سعداء. ويشار هنا أن محاولة تقييم حصيلة هذا الاستطلاع، تفترض تقصي السياق الذي يؤطر رهاناته ابتداء، ثم التعرف على التقنيات وأساليب التحليل التي تعامل معها. ذلك أنه إذا كانت استطلاعات الرأي تكتسب أهميتها في ظل نظام ديمقراطي، فإن المناخ السياسي الراهن في مصر تسوده نزعة وصاية النظام الحاكم جليّة! في ظروف ضعف البنية المؤسسية لعملية صنع القرار، وفقدان الثقة بين المواطن والنظام. ومع سيادة هذا المناخ غير المواتي، يمكن معاينة مأخذ بعينه حول الاستبار المستخدم، حيث اقتصر على التعرف على الرأي الشخصي دون الرأي الجمعي، بالنظر إلى اعتماده على سؤال الأفراد كل على حدة، فيما تختلف آراؤهم كثيرًا وسط الجماعة التي ينتمون إليها؛ ما يعني أنه تعامل مع الرأي العام بوصفه جمْعًا بسيطًا لآراء فردية لا تمتلك سوى مؤشرات شكلية، تستحيل في حيثياتها إلى سلطة الرقم؛ لما قد يضفي شرعية على سياسة ما ويدعم علاقات القوة التي تؤسسها أو تجعلها ممكنة. والأمر هنا يتعلق بالأسلوب المتبع في تحليل وتفسير نتائج الاستطلاع، الذي جاء تكرارًا لما ورد في الجداول الإحصائية، وخلا من اكتشاف الدلالات التي تنطوي عليها؛ بالذهاب إلى ما هو أبعد من مجرد عرض الهموم الفردية إلى صوغ المشكلات الجمعية، عن طريق ربطها بالإطار الاجتماعي السائد والقضايا الأكثر عمومية، وهو ما ساهم في تدني مصداقية هذا الاستطلاع لدرجة بدا معه أشبه بقراءة لحظية لعواطف جماهير، والتي لا تعبر بهذه الكيفية عن رؤية وقناعة؛ مما يضعف من تأثير نتائجه على القرار السياسي والإستراتيجي، هذا إذا كنا لن نغفل أن الوجه الصحيح لمقاربة هموم المصريين لا يقتصر على مجرد مرمى علمي، بل يلحقه بفاعلية اجتماعية، تطرح أمامها مهمة الإسهام في تنظيم خبراتهم، كي تضحى استمرارًا لصحيح وعيهم.