اليوم.. الفصل فى الطعون على نتيجة الدوائر المُلغاة بانتخابات النواب    تعرف علي مواعيد امتحانات الفصل الدراسى الأول لطلاب الصفين الأول والثاني الثانوى بالجيزة    أسعار اللحوم الحمراء اليوم الإثنين 22 ديسمبر    ارتفاع أسعار النفط وخام برنت يسجل 60.91 دولارًا للبرميل    بعد ارتفاعها 116%.. رئيس شعبة المعادن الثمينة يحذر من انكسار سريع لأسعار الفضة وينصح بالذهب    خبر هيفرح الملايين| اليوم.. دعوى قضائية لإقرار منحة استثنائية لأصحاب المعاشات    قوات الاحتلال الإسرائيلى تقتحم المنطقة الشرقية بنابلس    الليلة يبدأ المشوار .. منتخب مصر يفتتح مبارياته فى بطولة أمم أفريقيا بمواجهة زيمبابوي    مجموعة مصر.. جنوب أفريقيا يواجه أنجولا فى لقاء خارج التوقعات بأمم أفريقيا في السابعة اليوم    مصرع طفلة وإصابة 13 آخرين فى حادث تصادم ميكروباص وسيارة نقل بالدقهلية    الأرصاد الجوية : أجواء شديدة البرودة وشبورة كثيفة والصغرى بالقاهرة 12 درجة    مفوضي الدولة بالإداري توصي برفض دعوى الزمالك ضد سحب أرض النادي بحدائق أكتوبر    أهالي "معصرة صاوي" يودّعون أبناءهم.. تشييع جثامين 7 صغار ضحايا "لقمة العيش" بالفيوم    عزاء الفنانة سمية الألفي بمسجد عمر مكرم اليوم    ألمانيا: تسجيل أكثر من 1000 حالة تحليق مشبوهة للمسيرات فى 2025    سلاح الجو الأمريكى يعترض طائرة فوق مقر إقامة ترامب فى فلوريدا    نيجيريا: تحرير 130 تلميذا وموظفا خطفهم مسلحون من مدرسة الشهر الماضي    التصريح بدفن جثة فتاة انتحرت بتناول قرص الغلة السام بالعدوة    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد اليوم 22 ديسمبر 2025    محمود الليثي يشعل رأس السنة بحفل عالمي في فرنسا ويعيش أقوى فتراته الفنية    طريقة عمل شوربة العدس بالكريمة في خطوات بسيطة للتدفئة من البرد    بحضور أبطاله.. انطلاق العرض الخاص لفيلم «خريطة رأس السنة» في أجواء احتفالية    ويتكوف: روسيا لا تزال ملتزمة تماما بتحقيق السلام فى أوكرانيا    «المهن التمثيلية» تكشف تطورات الحالة الصحية للفنان إدوارد    مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 22 ديسمبر 2025 في القاهرة والمحافظات    مفوضى القضاء الإدارى: ادعاءات وجود عوائق أمام تنفيذ مشروع الزمالك قول مرسل    نقيب المحامين يترأس جلسة حلف اليمين القانونية للأعضاء الجدد اليوم    بوتين يصف اتفاقية الحدود بين دول آسيا الوسطى ب"التاريخية"    وزير الاتصالات: مصر تقفز 47 مركزًا عالميًا بمؤشر جاهزية التحول الرقمي    السلفية والسياسة: التيه بين النص والواقع.. قراءة في التحولات الكبرى    متحدث الكهرباء: 15.5 مليار جنيه خسائر سرقات واستهلاك غير قانوني    ريهام عبد الغفور: خريطة رأس السنة محطة استثنائية في مسيرتي الفنية    أحمد العوضي: مدمنون كثير تعافوا وذهبوا للعلاج من الإدمان بعد مسلسلي «حق عرب»    بحضور عضوي مجلس إدارة الأهلي، محمود بنتايك يحتفل بزفافه على سندس أحمد سليمان    اعترافات المتهم بقتل زميله وشطر جثمانه 4 أجزاء في الإسكندرية: فكرت في حرق جثته وخشيت رائحة الدخان    إخلاء عاجل لفندقين عائمين بعد تصادمهما في نهر النيل بإسنا    سائق يقتل زوج شقيقته إثر نزاع عائلي على شقة ميراث بالخانكة    خالد الغندور: توروب رفض التعاقد مع محمد عبد المنعم    لعبة في الجول – أمم إفريقيا.. شوت في الجول واكسب البطولة بمنتخبك المفضل    عماد الدين أديب: ترامب ونتنياهو لا يطيقان بعضهما    بيان عاجل من المتحدث العسكري ينفي صحة وثائق متداولة على مواقع التواصل الاجتماعي| تفاصيل    أبناؤنا أمانة.. أوقاف بورسعيد تطلق خارطة طريق لحماية النشء من (مسجد لطفي)| صور    دوميط كامل: الدول المتقدمة تُقدّم حماية البيئة على المكاسب الاقتصادية مهما بلغت    تعرف على جوائز الدورة ال7 من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي للفيلم القصير    أستاذ بالأزهر يوضح فضائل شهر رجب ومكانته في ميزان الشرع    تصعيد ديموقراطي ضد ترامب بسبب وثائق إبستين المثيرة للجدل    الصحة توضح آليات التعامل مع المراكز الطبية الخاصة المخالفة    عصام الحضرى: مصر فى مجموعة صعبة.. والشناوى سيكون أساسيا أمام زيمبابوى    تامر النحاس: سعر حامد حمدان لن يقل عن 50 مليونا وصعب ديانج يروح بيراميدز    هاني البحيري: يد الله امتدت لتنقذ أمي من أزمتها الصحية    نجاح عملية معقدة لتشوه شديد بالعمود الفقرى بمستشفى جامعة كفر الشيخ    بدون تدخل جراحى.. استخراج 34 مسمارا من معدة مريضة بمستشفى كفر الشيخ العام    سلوكيات خاطئة تسبب الإصابة بالفشل الكلوي    دعاء أول يوم في شهر رجب.. يزيد البركة والرزق    برلمانية المؤتمر: تعديلات قانون الكهرباء خطوة ضرورية لحماية المرفق    مواقيت الصلاه اليوم الأحد 21ديسمبر 2025 فى المنيا    بعد رؤية هلال رجب.. ما هو موعد شهر شعبان ؟    الإفتاء: الدعاء في أول ليلة من رجب مستحب ومرجو القبول    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أردوغان.. السلطان الكاذب "2"
نشر في البوابة يوم 03 - 03 - 2018

فى مثل هذا اليوم - عام 1924م- ألغى القائد التركى مصطفى كمال أتاتورك منصب الخليفة العثمانى من تركيا، وقام بتوحيد التعليم، وطوال هذه المدة أحدث قرار أتاتورك انقلابات خطيرة فى عالمنا العربى والإسلامى، أخطرها ظهور تيارات الإسلام السياسى، التى تعمل على إعادة الخلافة مستخدمة خطابًا دعائيًا يروج لفكرة أن الخلافة فريضة دينية يجب على المسلمين العودة إليها.
وطوال شهر مارس ستفتح البوابة ملف «الخلافة»، وتحديدًا الخلافة العثمانية لتجيب عن سؤالين.. أولهما: هل كانت الدولة العثمانية خلافة بالمعنى الإسلامى المعروف تاريخيًا؟.. وهل كانت الدولة العثمانية تقود المسلمين إلى التقدم فى الدين والدنيا، كما يأمر الإسلام أم أنها كانت سلطنة عفا عليها الدهر فقادت المسلمين إلى التخلف والانهيار؟
وسنعتمد فى هذا الملف على نصوص كتبها علماء إسلاميون أجلاء تؤكد أن الخلافة ليست فريضة دينية، بل شأن حياتى للمسلمين ترتيبه على الوجه المناسب للعصر، هذا التصور يعد نقيضًا لما تزعمه تيارات الإسلام السياسى، وفى مقدمتها جماعة الإخوان الإرهابية.
كما سيضم الملف حوارات مع متخصصين فى الدولة العثمانية تكشف الوجه الفاسد لهذه الدولة، والنظام الذى يلهث الجرو التركى رجب طيب أردوغان لإعادته من أجل مطامع دنيوية وليست دينية.
نستكمل اليوم الحلقة الثانية من كتاب «الخلافة وسلطة الأمة» الذى كتبه فقهاء أتراك قبل إلغاء منصب الخليفة فى تركيا
المقدمة
قبل أن ندخل فى إيضاح مفهوم الخلافة وتعريفه، نقول إن مسألة الخلافة فى حد ذاتها هى من المسائل الفرعية والفقهية، ومن جملة الحقوق والمصالح العامة المختصة بالذمة، ولا علاقة لها بالاعتقاد، فهى ليست من المسائل الاعتقادية، نعم أن علماء أهل السنة بحثوا بحثًا مستفيضًا عن هذه المسألة فى كتب العقائد، لكن بحثهم عنها ليس لكون هذه المسألة من مسائلها، بل لإبطال الأفكار الباطلة، ورد الخرافات التى أحاطت بها المسألة أخيراً.
إن الفرقة المسماة ب«الخارجية» تنكر وجوب الخلافة وتقولك «إن أمر نصب الخليفة وتعيينه ليس واجبًا على الأمة الإسلامية بل هو جائز. وجوده وعدم وجوده سيان».
والفرقة «الإمامية» من الشيعة تدعى بلزوم عصمة الخليفة من جميع الآثام. وتقول: «إن الخليفة مكلف بتقريب الناس من الحسنات وإبعادهم عن السيئات فالمرء الذى تكون هذه وظيفته يجب أن يكون هو قبل كل أحد متحليًا بالطاعات والحسنات ومتجنبًا عن السيئات».
أما «الإسماعيلية» و«الباطنية» وأمثالهما من غلاة الشيعة فليخلطوا المسألة بالخرافات ويرفعوا خليفتهم وإمامهم إلى مرتبة الألوهية.
هذه الأفكار الباطلة والعقائد الزائفة وأمثالها هى الأسباب التى دعت علماء أهل السنة إلى البحث بمؤلفاتهم فى الاعتقادات عن مسألة الخلافة أيضا تحت عنوان «مبحث الإمامة» ليدحضوها ويردوا على القائلين بها، وإلا فالحقيقة أن هذه المسألة، مع قطع النظر عما ذكر، هى من المسائل الفرعية والحقوقية - كما قلنا - وأن جميع علماء أهل السنة متفقون فى هذا الرأى.
بل إن هذه المسألة هى مسألة دنيوية وسياسية أكثر من كونها مسألة دينية وأنها من مصلحة الأمة نفسها، مباشرة، لذا لم توجد تفاصيل فى شأنها فى النصوص الشرعية، ولم يرد بيان صريح فى القرآن الكريم ولا فى الأحاديث النبوية فى كيفية نصب الخليفة وتعيينه، وشروط الخلافة ما هى، وهل يجب على الأمة الإسلامية فى كل الأحوال والأزمان نصب خليفة عليها أو لا؟
ولو كانت مسألة الخلافة، كما يظن البعض، من المسائل الدينية الرئيسية لبيَّن الرسول الأكرم، صلى الله عليه وسلم، الذى لم يضنِ ببيان وصاياه بأبسط الفروع والآداب والعادات، مثل تقليم الأظافر وإعفاء اللحى وأمثالها المتعلقة بصحة أبدان أمته - مسائل الخلافة التى سبق ذكرها بيانًا صريحا وقاطعا ولم يبنها واختار السكوت فيها.
وفضلاً عن هذا، إنها لو عدت من المسائل الدينية الأصلية للزم حينئذ أن يكون دين الإسلام ناقصًا لم يكمل فى زمن النبى، صلى الله عليه وسلم، لأنه لم ترد نصوص شرعية بخصوصها فى زمنه كما قلنا آنفًا، واللازم باطل لأن القرآن الكريم نطق بأنه أكمل فى حياة تاج الرسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى «اليوم أكملت لكم دينكم» الآية. فيتضح من هذا أيضًا أنها ليست من المسائل الدينية الرئيسية كما ظُن.
لا يتوهم بأننا ادعينا عدم وجود نص شرعى أصلاً فى شأن الخلافة، لأننا نعترف بورود بعض أحاديث فيه عن النبى، صلى الله عليه وسلم، كالحديث الدال على كون الأئمة من قريش، والدال على لزوم طاعة الإمام وعدم الشذوذ عن جماعة المسلمين، والدال على عدم جواز طاعة المخلوق فى معصية الخالق، وبنزول آية واحدة فى لزوم إطاعة أولى الأمر، هذا لاغير.أما مسائل الخلافة التى سبق ذكرها فلم يرد فيها لا حديث واحد ولم تنزل آية واحدة.
خلاصة القول: إن الخلافة هى من الأمور الدنيوية أكثر من كونها من الأمور الدينية، لذا ترك الرسول الأكرم، صلى الله عليه وسلم، أمرها إلى أمته ولم ينصب خليفة له ولم يوصِ به حين ارتحاله أيضاً. نعم إن الشيعة يدعون وجود نص شرعى بحق الإمام على وبعض علماء أهل السنة يقولون إنه وجد بحق سيدنا أبى بكر الصديق، ولكن لا صحة لهذه المدعيات عند جمهور علماء أهل السنة، والحقيقة أنه لم يرد بحق أحد من الصحابة نص صريح أو خفى بالدرجة الكافية.
إذ لو ورد نص بحق واحد منهم، لما وقع بينهم الخلاف فى أمر نصب الخليفة وقد اختلفوا فى انتخاب واحد من بينهم بعد ارتحال النبى، صلى الله عليه وسلم، وكانوا اجتمعوا فى محل يدعى «سقيفة بنى ساعدة» وتناقشوا فى الأمر كثيراً، وجرى بينهم مُر الكلام وحلوه وآخر الأمر بايعوا أبا بكر الصديق «رضى الله عنه». وهو استخلف فى آخر حياته عمر الفاروق، أى نصبه كولى عهد له ورضى به الصحابة، ثم إن الفاروق «رضى الله عنه» أحال أمر انتخاب الخليفة إلى مجلس الشورى المركب من ستة من الصحابة، وهم: عثمان وعلى، وعبدالرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وطلحة وسعد بن أبى وقاص «رضى الله عنهم»، وهؤلاء حكموا عبدالرحمن بن عوف ليختار من بينهم واحداً وينتخبه فاختار عثمان ورجحه، وبعد شهادة عثمان كما هو معلوم بويع للإمام على، ويسمى هؤلاء الخلفاء الأربعة ب«الخلفاء الراشدين».
وحيث إننا نلاقى أفكاراً باطلة وتعصباً لا مبرر له فى شأن مسألة الخلافة فى زماننا كما هو الحال فى كثر من الأحكام الشرعية سواها، شرعْنا إلى تحرير هذه الرسالة، وغرضنا منها تصحيح الأفكار وتنوير الأذهان بتفهيم حقيقة هذه المسألة الشرعية وبيان الأحكام المترتبة عليها. وبالله التوفيق.
القسم الأول
تعريف الخلافة وإيضاحها
«الخلافة» فى أصلها موضوعة لمعنى كون الشخص خلفا لأحد.. ولكون الشخص المحترم الذى هو إمام المسلمين خلف النبى صلى الله عليه وسلم فى إجراء الأحكام الشرعية سمى «خليفة». ويقال للخلافة «إمامة» أيضا، ولأجل تمييزها عن الإمامة بمعنى كون الشخص إمامًا فى الصلاة للجماعة يعبر عنها ب «الإمامة الكبرى»، وحُرر هذا البحث فى الكتب الكلامية أى العقائد بعنوان «الإمامة».
الإمامة فى اللغة معناها أن يتقدم الشخص وأن يكون المقتدى به.. والإمام هو المتقدم والمقتدى، به ولذا أطلق على البارع فى أى علم، وفى أى فن كان إماما. وبهذا الاعتبار يقال لأئمة المحلات والجوامع ولكبار العلماء «إمامًا». وهذا وجه تسمية الخليفة ب «إمام المسلمين» أو بتعبير أبسط «الإمام».
إن هذه البيانات هى باعتبار معانى كلمتى الخلافة والإمامة اللغوية، أما من حيث المعنى الاصطلاحى فإن الخلافة كلمة مرادفة للإمامة، ولكن الخلافة تستعمل أحيانا بمعنى أخص من الإمامة، وعلى هذا الوجه تنحصر كلمة «الخلافة» ب «خلافة الخلفاء الراشدين» كما قال صلى الله عليه وسلم: «الخلافة بعدى ثلاثون سنة ثم تصير ملكا عضوضا وسنوضح هذه الوجهة فيما يأتى مستقبلاً.
قال العلامة التفتازانى فى تعريف الإمامة فى «شرح المقاصد»: «هى رئاسة عامة فى أمور الدين والدنيا خلافة عن النبى صلى الله عليه وسلم وقال ابن همام - من فحول المحققين وأكابر الفقهاء الحنفية - فى كتابه المعروف ب «المسايرة»: هى «استحقاق تصرف عام على المسلمين». وإن كان هذان التعريفان يتغايران بالمفهوم، لكنهما يتحدان من حيث التحقق والوجود.
يُرى فى الوهلة الأولى أن التعريف الثانى لازم للأول، ولكن إذا أمعن النظر فيهما تبين أنهما متلازمان. التعريف الأول أوفق لعلم الكلام والثانى أوفق وأمس للفقه، وحيث إن ابن همام المشار إليه من المتخصصين بعلم الفقه ومن أكبر الفقهاء فى درجة المجتهدين قد اختار التعريف الثانى. ولأجل الإحاطة بما يفيده هذان التعريفان من المعانى حق الإحاطة، يجب عطف النظر على الإيضاحات الآتية بكمال الاهتمام:
بيان ذلك أن الدين الإسلامى هو دين عال يجمع بين السياسة والديانة، وأن سيدنا النبى الكريم لم يكتف بوضع الشريعة فقط، بل اشتغل بوضع القوانين الشرعية وتبليغها من جهة ومن جهة أخرى تعهد بذاته تنفيذ أحكامها وإجرائها، وكان ينظر إلى مصالح الأمة ويمشيها ويبعث الولاة والقضاة للأنحاء ويتقلد بنفسه القيادة العامة فى الأمر المهم، ألا وهو الجهاد.
ولم يكن هذا إلا التصرف العام على أهل الإسلام، وهذه الجهة هى الجهة السياسية للإسلام. وقد جاء فى «شرح المسايرة» أن استحقاق الحضرة النبوية لهذا التصرف العام لم يكن إلا لإمامته المترتبة على صفة النبوة، وقد استحقها بسبب النبوة، ويفهم من هذا البيان أن المعنى الذى تفيده كلمة «الإمامة» هو نفس المعنى المقصود من تعبير «الحكومة» حسب عُرفنا واصطلاحنا فى زماننا.
نعم نحن نطلق الحكومة ونستعملها فى رجالها كإطلاقنا فى قولنا «إن الحكومة فعلت كذا أو تفعل كذا»، لكن هذا الإطلاق علي طريق المجاز وهو من قبيل المجاز الحذفى.
وإن إمام المسلمين لكونه خلفًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم فى الإمامة والحكومة المذكورتين سمى «خليفة»، والصفة التى حازها سميت «خلافة» وهذا هو المراد من الكلام الذى دار فى ألسنة المسلمين «من أن الخليفة وكيل الرسول وأنه جالس على كرسى الرسول» وليس المراد منه أن وكيله وخلفه فى وضع الشريعة، لأنه لو كان كذا للزم أن يكون الخليفة رسولا والاعتقاد به - نعوذ بالله - كفر. وهذا الاعتقاد الباطل من خرافات «الباطنية» و«التعليمية» من غلاة الشيعة من الفرق الضالة ومن الاعتقادات الجارية فى مذهب الكاثوليك من المسيحية فى حق البابا.
وبهذه المناسبة أنقل لكم - من قبيل الاستطراد - هذه النقطة المهمة وهى: أن البابا فى الدين الكاثوليكى هو وكيل سيدنا عيسى عليه السلام المعصوم فى وضع الشريعة، وأنه يأمر باسم السيد المسيح ويُنهى ويُحل الحرام ويُحرم الحلال، يدخل من شاء فى الدين ويخرج منه من شاء. وإذا أراد عفا عن أكبر الكبائر وأسقطها، فى يده مفاتيح الجنة والجحيم، يدخل من شاء الجنة ويدخل من شاء فى جهنم!!
أما دين الإسلام فمُنَزَه عن أمثال هذه الاعتقادات الباطلة، لأنه لا يعطى حقا ولا صلاحية مثقال ذرة لأحد ما مطلقا فى وضع شريعة أو تحريم حلال أو تحليل حرام لا للخليفة ولا لشيخ الإسلام ولا للمفتى حتى ولا لكبار المجتهدين من مؤسسى المذهب.
فعلى هذا لم تجر فى الإسلام أصول النيابة فى وضع الشريعة وفى التشكلات الدينية كما هى موجودة فى المسيحية. أما الإفتاء والمشيخة الإسلامية فلم تكونا من التشكيلات التى وضعها دين الإسلام بل إنهما من المناصب الرسمية التى أحدثت مؤخرا بقصد تعليم الأحكام الشرعية للأمة فى مصالحها الجارية، لأن الإفتاء هو صلاحية علمية تحرز بالعلم والمقدرة. فيمكن لكل فرد أن يصير مفتيا إذا كان من أهل العلم، يعنى: أن الإفتاء لا يختص بالمفتين الرسميين. وكل عالم له أن يفتى ولو لم يكن مفتيًا رسميًا، أما مشيخة الإسلام فإنها أحدثت فى الدولة العثمانية بل أحدثت فيها أخيرا ولم تكن فى الحكومات الإسلامية قبلها. وشيخ الإسلام هو المفتى لا غيره. ولم يكن بينه وبين المفتين الآخرين أدنى فرق فى نظر الشرع وإن كان أكبر وأعلى رتبة عند الدولة. والفتوى الصادرة من مقام المشيخة لم تكن لها ميزة على الفتاوى الصادرة من المفتين الرسميين وغير الرسميين شرعًا. فالفتوى الصادرة من عالم، أى عالم كان ولو كان مجتهدا أعظم، إن كانت مبينة حكما شرعيًا ثابتًا بالنصوص الشرعية يجب العمل بها، لأنها مستندة على نص شرعى قاطع. وإن كانت محتوية على حكم فقهى متولد عن رأى مجتهد وقياسه لا يجب العمل بها على المستفتى ما لم يكن مقتنعًا. اللهم إلا إذا كان المستفتى عن عوام الناس الذين لا نصيب لهم من خاصة التدقيق والتأمل فيجب عليه العمل بها، لأن دليله ما يفتى به المفتى.
أما الذى عنده شيء من العلم والإدراك إذا لم يقتنع بالفتوى التى أخذها من مفتيه، فله الرجوع إلى الثانى والثالث حتى تحصل عنده القناعة. فعندئذ يجب العمل بها، لأن التدقيق والتأمل هما من حقوقه، بل من وظائفه الدينية «انظر إلى مباحث الاجتهاد فى «التحرير» لابن همام و«المستصفى» للإمام الغزالى فى علم أصول الفقه».
ونريد هنا أن نصحح خطأ فاحشًا من قبيل الاستطراد: قرأنا فى كتاب نشر فى الأيام الأخيرة بعنوان: «الخلافة الإسلامية والمجلس الكبير الملى» عبارة يقول فيها المؤلف: «إن الأحكام التى استنبطها علماء الشرع، والقوانين والأنظمة المعمولة وفقا للقواعد الفقهية يطلق عليها «الأحكام الإلهية» حسب اصطلاح الإسلام». هذا خطأ فاحش؛ لأنه لا يوجد اصطلاح كهذا لا فى الإسلام ولا فى كتب علم الأصول وعلم الفقه، ولم يخطر ببال عالم هذا الاصطلاح، يقال للأحكام الفقهية التى يستنبطها الفقهاء «أحكام اجتهادية» ولا يقال قطعًا «أحكام إلهية». ولا يطلق أحكام إلهية إلا على الأحكام الثابتة بالنصوص الصريحة الشرعية. ولا يوجد اختلاف فى الاحكام الإلهية ولا يجوز لأحد أن يخالفها. أما الأحكام الاجتهادية فهى ملأى بالاختلافات لأنها وليدة آراء الفقهاء واجتهاداتهم، ولا يمكن الاهتداء إلى حكم اجتهادى لم يختلف فيه اثنان أو ثلاثة من المجتهدين.
هل يمكن إطلاق أحكام إلهية على أحكام معرضة لكثير من الاختلافات؟ وهل يمكن وجود اختلاف وتباين فى أحكام الله؟ يجوز أن يطلق على الأحكام الاجتهادية «أحكاما شرعية» ولكن لا يقال إنها «شريعة»؛ لأن الشريعة هى ما وضعه وبينّه حضرة الشارع من الأحكام المنصوصة. وجواز إطلاق أحكام شرعية على الأحكام الاجتهادية هو باعتبار استنادها على القواعد المستخرجة من الشرع الشريف.
وقد اختلف أئمة أصول الفقه فى مسألة اجتهادية غير منصوصة، هل يعتبر حكمها حكما شرعيا عند الله، وفى نفس الأمر أم لا؟ قال بعضهم إنه لا يوجد حكم شرعى فى المسألة الاجتهادية وإن جميع المجتهدين المختلفين مصيبون هؤلاء يسمون ب «المصوبة». وقال الآخرون إنه يوجد حكم شرعى ولكن المجتهد لم يكن مكلفًا. باستخراجه لأنه يصيب تارة ويخطئ تارة، فالمصيب أحدهم والآخرون مخطئون. ويطلق على هؤلاء «المخطئة».
وحيث إن الأحكام الاجتهادية لم تكن من الأحكام الإلهية، يسوغ للحكومة أن ترجح وتختار فى أمر تنظيم القوانين الأصلح لحاجة العصر من بين المسائل الاجتهادية الفقهية التى اختلف فيها المجتهدون. ولو كانت الأحكام المذكورة من الأحكام الإلهية لوجب ألا يكون مسوغ شرعى لهذا الترجيح والاختيار. وبعد تصحيحنا هذه النقطة الدقيقة التى اكتسبت الأهمية فى زماننا على هذه الصورة فلنرجع إلى إيضاح التعريفات المذكورة سابقا.
كنا عرفنا الخلافة نقلا عن «المسايرة» لابن همام الشهير، بأنها «استحقاق تصرف عام على المسلمين». والغرض من التصرف العام المذكور بهذا التعريف هو التصرف بالمصالح العامة ويطلق عليه بلسان الفقه «الولاية العامة» وسنوضح الولاية العامة وكيفية استحقاق الخليفة إياها والتصرف بها فيما يأتى خاصة.
واتضح جليا من هذه البيانات أن الخليفة وبعبارة أخرى الإمام، هو رئيس جمهور المسلمين. ولم تكن ولايته العامة كولاية البابا الروحانية، بل إنها إدارية وسياسية كالولاية العامة الموجودة عند رئيس جمهورية أو ملك.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.