غاب الصحفي الكبير هشام يحيي عن مصر سنوات خمس ليعمل رئيسًا لقسم المحليات بجريدة الوطن الإماراتية.. لم يعزله عمله هناك عن مصر ولم يباعد بينه وبين أصدقائه وزملائه كما لم تغب عن خاطره لحظة واحدة ذكريات طفولته ولا أهل قريته ولا أساتذته الذين يدين لهم بالفضل طوال الوقت في دعمه واكسابه تفاصيل واسرار المهنة. عندما تلتقي الكاتب الصحفي هشام يحيي تشعر للوهلة الأولى أنه انسان خجول للغاية لن ينبس بكلمة واحدة طوال جلستكما وبمجرد أن تنطق بجملة حول موضوع ما تجد سيلا من الحكايات والتأويلات لكل حدث فتشعر ان له حكاية مع كل الناس سواء من هم في عالم الصحافة أو من خارجه. وبالرغم من أنه يكبرني بسنوات عدة وقد كنت أقرأ له في جريدة "الدستور" منذ كنت مجرد قارئ لكنه بدماثة خلق لم يناديني باسمي مجردا. لم يكن الحوار مع هشام على المستوى النفسي سهلا فهو من أفضل الذين أجروا حوارات صحفية مع شخصيات من كل الاتجاهات لكن حكاياته المتسلسلة أنستنا معا أننا بصدد حوار صحفي أجريه معه. هشام يحيي صاحب "قبض الريح" الذي صدر مؤخرا عن دار روافد لم يقدم كتابه ابتغاء شهرة أو مكانًا بين كتاب الرواية او القصة وإنما بدافع أنساني نابع من شعوره بالفقد نحو أعز أصدقائه وتلاميذه "وليد كامل" . تحمس هشام يحيي للصحفي الشاب ودافع عن موهبته وسانده حتى شعر أن التلميذ تفوق على أستاذه لم تصبه الغيرة كما يحدث من بعض من يزعمون أنهم من الأساتذة احتضن الأستاذ تلميذه واعتبره "صندوقه الأسود" ويوم رحيله بعد معاناة مع المرض اللعين حزن الأستاذ على فقد تلميذه كما "اتوجع قلبه" على طريقة موته الدراماتيكية. ترك هشام الإمارات وعاد إلى القاهرة ليقدم العزاء في صديقه وتلميذه وليد كامل الذي احتل الغلاف الأخير للكتاب جزء من حكاية عنه: " طلبت من فتي القهوة أن يترك المقعد خاليا أمامي، بينما جابت عينيه شارع شيكولاني ..في انتظار خروج وليد في أية لحظة ، يتحرك لشراء الجرائد من شعبان ليلقيها على الطاولة ويلقي نفسه بين يدي مثقلاً بالهموم: عم هشاااااااااام....- طال انتظاري وما جاش وليد ولكني استحضرته .. قعدته قدامي وعاتبته وانفعلت عليه وصرخت في وجهه: - عم هشام.. أنا كنت عارف إني ماشي خلاص ..ماكنتش عايز يكون حد مداينك بجمايل بسببي .. على الأقل كنت استنى لما تيجي دبي ..وأفسحك.. _ ماكنش بإيدي يا عم هشام. -مستغرب ليه ..مش انت اللي دايما بتقولي ابراهيم أصلان كتب مالك الحزين "موت الفقراء اغتيال" هذا المقطع الذي تصدر الغلاف الثاني للكتاب يبين مدى الحزن والأسى الذي مازال يكتوي به هشام يحيي لفقدان صديقه وتلميذه. وكلما سألته سؤالا يقول لي : وليد سألني السؤال دة وجاوبته وحتلاقي اجابة في الكتاب . لدرجة أنني تخيلت وليد حاضر بيننا ...يا الله على الحزن حينما يسكن البشر ! لغة الكتاب جاءت بالعامية المصرية ورغم اعتراض الكثيرون على اي كتاب ايا كان تصنيفه تأتي لغته بالعامية لكن هذا لم يمنع هشام من ان يسطر كتابه باللغة الدارجة وحينما سألته لماذا قال: "كتبت الكتاب بعفوية شديدة ولم أحدد قبل كتابته ماذا سيكون ولا بأي لغة حاكتبه". لم يبالغ هشام في إجابته فمن يقرأ الكتاب يشعر ان المؤلف يحكي له بمفرده ويحكي ما في قلبه بدون رتوش أو مساحيق . الكتاب تناول شخصيات حقيقية عرفها هشام واقترب منها وعرف الكثير عنها لكنه لم يتناوله بما يسيء إليها رغم اقتناعه ونحن معه أن ليس هناك ملائكة :"كتبت عن نفسي كل شيء لكن لم اكتب عن اي أحد ما يشينه لأن هذا أمر يخصهم كما كتبت عن بعض الذين رحلوا ولم أتعرض لهم بما يسيء لهم لأنهم لا يملكون حق الرد.. لكن عندما كتبت عن حياتي وتجاربي تخليت تماما عن فكرة الرقيب وكتبت بكل وضوح وصراحة". عمل هشام يحيي في صحف عدة لكنه مازال يذكر اساتذته بكل خير ويكن لهم كل احترام عرفانا منه بجميل صنعهم معه:" لا استطيع أن انسى أشخاص محددين تعرفت عليهم عن قرب وهم اساتذة كبار فمثلًا الكاتب الكبير الراحل محمود عوض اشتغلت معاه في الأحرار وأصدرنا معا 14 عددًا وقد تسلم محمود عوض الجريدة وهي توزع 3 آلاف نسخة فإذ به يرفع نسبة توزيعها ل 30 ألف نسخة ..كمان ما اقدرش انسي الفترة التي عملت فيها مع مصطفى شردي..لكن في النهاية اللي ما اشتغلش مع محمود عوض ما اشتغلش في الصحافة". مثل كثير من الصحفيين الذين جاءتهم فرصة العمل بالخليج سافر هشام للعمل بجريدة الوطن الإماراتية لكن التجربة في بداياتها لم تكن سهلة كما يقول: "لما رحت الإمارات حدثت لي ربكة غريبة انا متعود على الشغل في جرائد اسبوعية ففوجئت ان الجريدة اللي بشتغل فيها يومية فالإيقاع مختلف تماما. وبعد فترة من العمل فوجئت برئيس التحرير الدكتور عبدالرحمن الشميري يصدر قرارًا بتعييني رئيسا لقسم المحليات وهذا القسم من اهم الأقسام في الصحف الإماراتية لأن يتعامل مع اخبار الدولة ومسئوليها فأصابني الخوف لأني كنت بتعامل مع الصحافة في مصر من الأبواب الخلفية ولم اتعامل قبل كدة مع اي مصدر او جهة رسمية وفي هذه الأثناء التقيت ببعض الزملاء من الصحفيين المصريين الذين عملوا بالأهرام والأخبار واخبروني أن لا فارق بين العمل في الجرائد الإمارتية والجرائد الحكومية في مصر". عمل هشام يحيي في صحف مستقلة في مصر وقد تكون أغلبها على يسار السلطة أعطاه مساحة كبيرة لكي يعبر عن رأيه بحرية كبيرة لكن هل العمل بالصحف الإماراتية أعطته هذه المساحة من الحرية في تناول الموضوعات التي يقوم بتحريرها يقول هشام عن هذا:" الصحافة بالإمارات بها مساحة كبيرة من الحرية مثلها مثل الموجودة في مصر ..ومحصلش ولو مرة واحدة أن اعترض اي مسئول من داخل الجريدة او من خارجها على اي موضوع كتبته ..بالعكس كنت أرى تقديرا واحتراما وتشجيعا من الجميع ." يعتز هشام يحيي بمهنته ويفتخر بعمله مع رموز الصحافة المصرية ويرى أن المدرسة الأم للصحافة في مصر هي "روزاليوسف" . كما يعتز بأصوله الريفية حتى وان كانت نشأته بحي شبرا العريق يكتب في كتابه عن ناس قريته ففي الحكاية رقم 24 يقول عن عمته: .."لغاية مرة اتقابلنا عندها صدفة ..كنت وقتها كبير ومخلص ثانوية أزهرية ..وشافها وهي عمالة تدلع في..بحركة لا ارادية قام بابا وخلع بنطلونه ..ووراني آثار حرق في فخذه ..لم يختف رغم مرور عشرات السنين . قعدت عمتي كوثر تضحك: انت لسه فاكر يا محمد.. أصل الحكاية إن زميلة عمتي كانت راجعة من المدرسة ..وبابا بيلعب في الشارع ..قعد يعاكسها بالعجلة ..راحت جري اشتكته لأخته الكبيرة عشان تعاقبه عمتي حرقته بالمعلقة في فخذه..وهما بيحكوا الحكاية ..خدتني في حضنها: أعز الولد ..ولد الولد." في حواري معه يقول هشام عن والده أيضا: والدي كان يعمل مسعفا لكنه كان يتعامل مع الأحداث بوصفه كاتبا فهو الذي حمل حسن البنا حينما اطلق عليه الرصاص بشارع رمسيس ونقله مجموعة من الناس إلى الإسعاف وكان قد نزف دما كثيرا فلم يستطع الطبيب الموجود بالإسعاف إنقاذه وطلب نقله إلى مستشفى قصر العيني وفي الطريق كان النزيف حادا وعندما وصل إلى قصر العيني كان قد توفي". الحديث عن حسن البنا جعلنا نتطرق إلى الإخوان وكيف انهم أفشلوا ثورة 25 يناير ويريدون أن يفشلوا ثورة 30 يونيه فقال هشام : أولا سقوط الإخوان في مصر يعني سقوطهم في العالم ..وسقوطهم في مصر أيضا يعني أن مصر الحديثة أتولدت من تاني ..مصر الأربعينات والخمسينات..الإخوان أفكارهم وممارساتهم تعتمد على استغلال فقر الناس وعوزهم عبر سلسلة من التبرعات والأعمال الخيرية التي تضفي عليهم ورعا ورحمة وتسامح وهم في مخبرهم عكس ذلك تماما..الإخوان دائما ينجحون في البلاد التي تعاني الفقر او أن ثمة قطيعة بين الحاكم والمحكومين ..بدليل أنهم فشلوا في الإمارات ونبذهم الناس منذ البداية لأن الشعب الإماراتي يعشق حكامه لما يوفرونه له من عيشة كريمة وحرية وديمقراطية. وعن ماذا بعد الكتاب الأول "قبض الريح" يقول هشام يحيي ..أتمنى أن تأتيني الفرصة للعمل على كتاب آخر فسيل الحكايات لا ينتهي والحياة مليئة بالبشر الذين يستحقون الحكي عنهم".