سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
"عبدالناصر" بالأمريكاني.. فيلم في واشنطن ينصف الزعيم المصري الراحل.. الشهادات أبرزت انحيازه للفقراء والعدالة الاجتماعية.. و"جولدمان" استخدمت مشاهد تسجيلية تبين عشق المصريين ل"جمال" خاصة جنازته
رغم مرور الذكرى ال46 على وفاته، فإنه لا يزال يشغل العالم شرقًا وغربًا، سواء من محبيه أو أعدائه، ولا يزال السؤال يتردد، وإن لم يجد جوابًا شافيًا بعد، لماذا «جمال عبدالناصر»، الزعيم العربى الوحيد، الذى ترفع صوره خلال المظاهرات؟ ولماذا ما زالت هناك قابعة على الجدران، داخل الأحياء الشعبية، أو القرى البعيدة النائية خاصة الفقيرة منها؟! ولماذا سيرته عالقة فى الأذهان، بكل هذه الهالة من المحبة -خصوصا بين الفقراء- أو الاحترام والتقدير من الأعداء؟!. ربما تلك الإجابة الجامعة المانعة، التى جاءت على لسان أحد من قدموا شهاداتهم، فى الفيلم الوثائقى «جمهورية ناصر: بناء مصر الحديثة»، للمخرجة الأمريكية «ميشيل جولدمان»، تلك الإجابة باختصار كانت: «عبدالناصر أبوالفقراء». كانت «جولدمان» أشارت خلال الندوة، التى عُقِدَت عقب عرض الفيلم، إلى «أنها تستهدف بهذا الفيلم الجمهور الأمريكى فى المقام الأول، خاصة أن كثيرًا من الأمريكيين ممن هم فوق سن الأربعين، لا يعرفون اسم الرئيس جمال عبدالناصر، ولا يفهمون الكثير من المشاعر السيئة فى الشرق الأوسط ضد أمريكا، التى تكاد تصل إلى حد الكراهية، (فى مداخلة لأحد حضور الندوة رد على هذه النقطة: بأن الشعوب العربية خاصة المصريين يكرهون سياسات الولاياتالمتحدةالأمريكية، وممارساتها الهمجية العدوانية، ضد الشعوب الدول العربية، وليس الشعب الأمريكى كأفراد أو مواطنين)». ولفتت «جولدمان»، إلى أن جذور الكراهية ضد أمريكا تعود إلى فترة حكم عبدالناصر، ووقوف الولاياتالمتحدةالأمريكية، ضد مساعى وخطط عبدالناصر لبناء دولة مستقلة حديثة، ومحاولة إحباط مشروعه الوطنى، خصوصا من قبل الرئيس «دوايت إيزنهاور»، الذى وصل إلى حد التواطؤ مع إسرائيل، خلال العدوان الثلاثى، وما زاد الطين بلة إيعاز الولاياتالمتحدة للبنك الدولى، بسحب تمويل مشروع السد العالى، أحد وأهم الطموحات القومية لمصر. «انحياز عبدالناصر للعدالة الاجتماعية»، وهو ما أبرزته جولدمان، فى مشاهد متعددة، خصوصا توزيع عقود الملكية الزراعية، على صغار المزارعين، الذين كانوا مجرد عمال تراحيل، أو أُجرَاء فى أراضيهم للمرة الأولى، نقلت تلك المراسم فى أكثر من محافظة وإقليم فى مصر، من بحرى لقبلى، من قطار الصعيد، الذى تزاحم الآلاف حول محطاته لرؤية زعيمهم، الذى حررهم أخيرًا، منذ عقود طويلة. مشاهد تسجيلية حقيقية، تعكس محبة خالصة ومتبادلة بين الزعيم، والمصريين البسطاء، فبعيدًا حتى عن تخرصات أعداء عبدالناصر، من أن تلك المظاهرات التى تخرج لتأييده، كانت بتدبير من الاتحاد الاشتراكى، الذى لم يكن وقتها قد أسس بعد، إلا أن تلك اللقطات الحية لعشرات المئات من المصريين الفقراء، وهم فى صفوف ممتدة على جانب السكة الحديدية، لمجرد أن يحظوا بلمحة خاطفة لوجه الزعيم، الذى يسمعون عنه، أو ينتظرون خطبه عبر المذياع. وبحسب إحدى الشهادات فى الفيلم، لمزارع بسيط ما زال يتذكر مشاهد طفولته: «كان أهالى القرية يتجمعون كلهم فى دوار العمدة، ليسمعوا خطب عبدالناصر، فلم يكن فى القرية سوى مذياع واحد، يمتلكه عمدة القرية». أيضا أبرزت شهادات -حتى المختلفين مع ناصر خاصة حول مسألة الديمقراطية- سواء الدكتور خالد فهمى، أو الصحفى هانى شكرالله، والدكتور شريف يونس، عن مدى الجماهيرية والحب الذى حظى بهما ناصر، وهو أيضًا ما لم يفسر حتى يومنا هذا، ونعنى هنا جنازته المهيبة، والتى عرفت ب«جنازة القرن العشرين». وربما أرادت «جولدمان» التأكيد على فكرتها، بتوازى لقطتين، ما بين قرار التنحى، عقب هزيمة 1967، وخروج مظاهرات حاشدة تطالب برجوعه للحكم، وتاليًا مشهد جنازته، التى لم يحظْ بها أى حاكم عربى فى العصر الحديث. أيضا شهادات المصريين البسطاء أنفسهم، وكيف أنهم لا يزالون يحتفظون فى ذاكرتهم بحكايات أهاليهم عن جنازة ناصر، وكيف خرج فى كل كفر ونجع وقرية، نعشٌ رمزى فارغ، يطاف به أرجاء القرية، ولا يزالون يتذكرون أيضًا كيف أن آباءهم لم يكونوا يملكون شيئًا قبل ناصر، وكيف أنشأ الوحدات المجمعة، التى شملت مدرسة ابتدائية، ووحدة صحية، وجمعية زراعية. وعبر ساعة ونصف الساعة من اللقطات التاريخية، منها ما يعرض للمرة الأولى، تتبعت «جولدمان» تاريخ حياة عبدالناصر، وإن لم تُلِم بكل الوقائع والحوادث التى مرت به، سواء أثناء حكم مصر أو قبلها، وقد دفعت -خلال المناقشة التى عُقِدَت عقب عرض الفيلم- بضيق زمن الفيلم، واعتذرت للجمهور عن عدم استطاعتها ترجمة الفيلم إلى اللغة العربية لضيق الوقت، قبل أن تتقدم به إلى إدارة المهرجان. تطرقت «جولدمان» إلى نشأة ناصر، منذ ولادته فى الإسكندرية، ويتمه المبكر بوفاة والدته، وكيف أن شعوره الوطنى بدأ مبكرًا، وهو فى السابعة عشرة من عمره، حيث ضمنت أحد خطاباته التى تُعرض للمرة الأولى، وأمدتها بها ابنته الدكتورة هدى عبدالناصر، وعرضت له لقطات للمرة الأولى مع أسرته. ومن حرب فلسطين سنة 1948، وكيف أنها كانت الفترة التى نضجت فيها ملامح تنظيم الضباط الأحرار، والتخطيط للثورة. كما أبرزت مخططات جماعة الإخوان الإرهابية، وتوجهها للحكم منذ بواكير الثورة، وكيف حاولوا منذ اللحظات الأولى لنجاح ثورة 1952، القفز عليها، والتمكين لمشروع الإسلام السياسى، فى شكل الخلافة المزعومة، التى نادى بها مؤسس الجماعة حسن البنا، فحاربوا «ناصر»، ومشروعه التحديثى، بمشروعهم الدينى، مما دفع بالصدام بينهم وبين ناصر، من أول محاولة اغتياله فى ميدان المنشية بالإسكندرية، مرورًا باعتقالهم، وصولًا لإعدام سيد قطب. كما وثق الشريط السينمائى، مخططات «جون فورستر دالاس»، ومكائده السياسية، وكرهه لعبدالناصر، غير أنه أبرز الجوانب المشرقة لسياسات «ناصر» الخارجية، سواء مع المعسكر الشرقى، بقيادة الاتحاد السوفيتى، منذ أزمة العدوان الثلاثى، عقب تأميم قناة السويس، أو تنويع مصادر السلاح، وإنشاء منظمة دول عدم الانحياز، وانطلاق حركات التحرر الوطنى، لكل ربوع الدول الإفريقية والعربية، حيث احتضنت مصر منظمة التحرير الفلسطينية، وثورة الجزائر، موثقة بلقطات للقاءات ناصر مع الزعيم الغانى «كوامى نكروما»، وزوجته المصرية «فتحية نكروما»، والرئيس الجزائرى أحمد بن بيلا، والرئيس الفلسطينى ياسر عرفات، وغيرهم الكثير من زعماء حركات التحرر الوطنية. تناول الفيلم أيضًا علاقة الصداقة الوطيدة، بين «ناصر» والمشير عبدالحكيم عامر، التى تحولت للجفاء مع هزيمة 1967، ومحاولات «عامر» السيطرة على القوات المسلحة، وفرض نفوذه على الجيش، الذى وصل كما فى شهادة «محمد فائق» وزير الإشاد القومى السابق، إلى أن «عبدالحكيم عامر جمع شلته، وحاول يعمل انقلاب داخل الجيش على عبدالناصر». لم تنسَ المخرجة تتبع الوحدة العربية، من خلال تجربة الجمهورية العربية المتحدة، بين مصر وسوريا، بلقطات أرشيفية ل«ناصر» فى دمشق، بصحبة شكرى القوتلى، يعلنان الوحدة التى سرعان ما انفصلت. والحدث الأهم فى حياة مصر والمصريين، ألا وهو بناء السد العالى، وهو النقطة التى انطلقت منها المخرجة فى فيلمها، وكيف استطاعت مصر تحدى الولاياتالمتحدةالأمريكية، بعدما سحبت تمويل السد العالى، الذى أُدرِجَ كأكبر بحيرة صناعية فى العالم، وبفضله دخلت الكهرباء الريف المصرى. ولم ينسْ الفيلم هزيمة 67، وتحمل «ناصر» مسئوليته الكاملة عنها، وقراره بالتنحى، متقاطع مع لقطات لخروج المصريين، ومطالبتهم له بإزالة آثار الهزيمة، وخروج مظاهرات الطلبة فى الجامعات، للمطالبة بمحاكمة المسئولين عن الهزيمة. أحداث كثيرة فى حياة عبدالناصر تناولها الفيلم بموضوعية شديدة، وانحياز واضح نحو زعيم أنصفته مخرجة أمريكية، بعدما اختبرت بنفسها، من خلال شريطها الوثائقى، انحياز ناصر للفقراء، فاستحق حبهم وتقديرهم، حتى بعد وفاته، بما يقارب النصف قرن، كانت هذه المعانى شديدة الوضوح فى التقاطع، بين لقطات الماضى بأحداثه القديمة، ولقطات حاضرة حديثة عشناها ونعيشها، منذ ثورة 25 يناير 2011، فبينما هناك لقطة من ثورة يناير، والمتظاهرون يرفعون صور «مبارك» مظللة بعلامات ال(x)، جنبًا إلى جنب مع صور «ناصر»، تتبعها لقطة أخرى من ثورة 30 يونيو، والعلامة «ارحل» هذه المرة من نصيب المعزول محمد مرسى، بينما صور «ناصر»، والرئيس عبدالفتاح السيسى مذيلة بالمطالبة بهما. يبقى أن كل شهادات الفيلم أبرزت انحياز ناصر للفقراء والعدالة الاجتماعية للقضاء على ظاهرة مجتمع النصف فى المائة، من خلال مشاريعه التنموية، وفى هذه النقطة أفاض الدكتور جلال أمين، فى الإشادة بعبد الناصر، وخطواته التى اتخذها فى هذا الصدد. وإن أخذ عليه كلٌ من الدكتور خالد فهمى، والدكتور توفيق أكلميندوس، والشاعر فؤاد زين العابدين، والدكتور شريف يونس، موقف عبدالناصر من التعددية والديمقراطية، خصوصا بعد إعلان مارس 1954. بينما دافع «فائق»، بأن مصر والمصريين لم يكونا مؤهلين للديمقراطية، خاصة فى تلك الفترة، التى كان فيها الاستعمار الإنجليزى لم يغادر البلاد إلا قبلها بسنوات قليلة. فى النهاية، قدم الفيلم شهادة موقعة من مخرجة أمريكية، تؤكد ما قاله الكاتب الكبير إبراهيم أصلان، بأن عهد عبدالناصر: «أزهى عصور التاريخ المصرى، لما تحقق بها من استقلال وطنى، ومشروعات قومية للنهوض، الذى ألقى بظلاله على رفع مستوى معيشة الفرد، وتمتعه بحياة كريمة، فى مجال التعليم والعلاج المجانى».