نعيش مرحلة تزداد صعوبة وتعقيدًا وتكثر فيها الأخطاء التي سوف نندم على توابعها قريبًا! فمن ناحية، لا يبدو أن مسئولي الحُكم في البلاد يستوعبون أنهم يمثلون ثورة في مرحلة انتقالية، بما يلزم فيه أكثر من أي وقت آخر أن تُصاغ الأولويات بما لا يُهدِر أي قدر من طاقة المجتمع فيما يخرج عما هو مُلح وفق أجندة الثورة، إلا إنهم يماطلون حتى الآن بغير مبرر في أهم القضايا وأكثرها إلحاحًا والتي بطبيعتها تأخذ وقتًا في النقاش والجدل العام حتى يتوفر لها التوافق المطلوب بين التيارات والقوى السياسية المختلفة، مثل وضع القوانين التي تضبط شروط ومعايير إنجاز استحقاقات الانتخابات البرلمانية والرئاسية، مع ضرورة إعادة رسم الدوائر الانتخابية على أسس موضوعية، وليس على طريقة مبارك ومرسي، حينما كانت الدوائر تُرسم حسب مصلحة جماعة كلٍ منهما، وذلك حتى نضمن النزاهة والحيدة التي تثمر لأول مرة في تاريخ مصر نتائج انتخابات تُعبر تعبيرًا حقيقيًا عن إرادة الشعب في هذه المرحلة فيتحقق بهذا واحد من أهم مطالب الثورة! إلا إنهم وبدلاً من الالتفات بجدية إلى مثل هذه القضايا يبددون الوقت الثمين في مناقشة واتخاذ قرارات استراتيجية بعيدة المدى في مشروعات تختلف فيها الآراء يأخذ تنفيذ الواحد منها أعوامًا بعد أعوام، مثل إحياء مشروع توشكى، ومثل مشروع تطوير قناة السويس! ما أثار تساؤلات عن مصدر يقين هؤلاء المسئولين أنهم سوف يستمرون على كراسيهم لزمن ممتد يسمح لهم بالتخطيط لهذه المشروعات ومتابعتها، وهو ما يشير إلى أنهم غير مقتنعين بأن القرارات في مثل هذه المشروعات تخرج عن مجال صلاحياتهم وتدخل مباشرة في مهام حكومة مستقرة مختارة ديمقراطيًا من الشعب! ومن ناحية أخرى، هناك استنزاف آخر يبدد طاقة البلاد ويؤثر سلبًا على إنجازات المرحلة الانتقالية، وهو ما يتجلى في ممارسات الإخوان المسلمين وحلفائهم والمتعاطفين معهم، من العنف العمدي ضد أجهزة الأمن وعموم المواطنين وتهديد المصالح وقطع الطريق.. إلخ، وقد أعلن الكثير منهم مرارًا وتكرارًا أن هذا الاستنزاف مدرَج في خطتهم، ولكنهم لم يفصحوا عن إدراكهم للسلبيات التي تعود أيضًا على جماعتهم وأفرادهم من جراء هذه السياسة، ما جعل الكثيرين يؤكدون أن الجماعة وصلت إلى حدود اضطراب الوعي الذي لم يعد يسمح لهم بإدراك مخاطر ما يفعلونه بأيديهم طواعية فتكون له آثار وبيلة عليهم أيضًا، سواء على مستوى الجماعة أو الأفراد، وصحيح أن الأيام تؤكد تراجع شعبيتهم إلى درك غير مسبوق، إلا إنه يبدو أنهم لم يلحظوا هذا الانفضاض عنهم وعن أفكارهم! بل لم يدركوا الأثر العملي لتراجع التأييد الغربي لهم والذي كان على أشده قبل أسابيع قليلة! والملاحظ حتى الآن، أن أجهزة الدولة لم تمارس مسئولياتها ولم تستخدم قدراتها الفعلية إلى الحد الذي يحسم مثل هذه الانتهاكات مِن قِبَل الجماعة التي تقترفها بثقة العارف بأن أجهزة الأمن مغلولة اليد عن رد الاعتداء، بعد أن وقع المسئولون تحت الابتزاز وصاروا يتخذون القرارات وعيونهم على البيانات الصادرة من الخارج، والتي كانت حتى أيام قليلة تغمض العين عن الواقع وتردد كالببغاء مقولة الدفاع عن أكذوبة شرعية أول رئيس مدني منتخب! ومن ناحية ثالثة، فقد اضطربت بوصلة الكثيرين من النشطاء، وخاصة من أولئك المنتمين لأهداف الثورة، الذين ينسون أننا في مرحلة انتقالية ويفترضون أن مهام الثورة العاجلة تتحقق أوتوماتيكيًا، فيصبون جام غضبهم على المسئولين على تقاعسهم، وفي ذات الوقت يتصرفون وكأن كل المهام تحققت بالفعل، فيهاجمون المجلس العسكري ويهتفون بسقوط حُكم العسكر، بما يلزم معه الابتعاد عن الحكم بالمطلق والعودة للثكنات، بل وبتجاهلهم الحق في الحياة المهدَر في جرائم القتل المنظم لرجال الجيش والشرطة، وينسون أن الحق في الحياة على رأس حقوق الإنسان، ولكنهم يركزون على ضرورة إعمال حقوق الإنسان التالية في الأهمية، كما تُطبَق في اسكاندينافيا وسويسرا، على المتهمين في أعمال العنف الذي يرتكز أصحابه على أفكار جهنمية لا يخفونها! وقد تجلى أوضح مثل على ارتباك الرؤية في التعامل مع اضطرابات الجامعات العمدي الذي أعلن من يقفون وراءه أن هدفهم تعطيل الدراسة والنيل من هيبة الدولة، فإذا ببعض النشطاء في مجال حقوق الإنسان يُصدرون البيانات المتتالية التي ترفض تدخل قوات الأمن الرسمية من دخول الجامعة لاستعادة النظام ولإلقاء القبض على المتهمين في قضايا جنائية خاصة باستخدام العنف ضد الأساتذة والطلاب واقتحام المدرجات لطرد المنتظمين في الحضور، وإحداث التلفيات في المنشآت والوثائق، وقذف الأثاثات من النوافذ، وبرغم أن كل هذا مسجل بالصوت والصورة وجرى عرضه على شاشات التليفزيون، إلا أن هؤلاء النشطاء يرفضون تدخل الأمن ويعتبرونها "مسألة مبدأ"! وكأن الشرطة المصرية صارت من أجهزة الأعداء! وكأن الأمن في الدول الأوروبية لا يتدخل فيما هو أقل من هذا! وكانت المحصلة العملية النهائية في صالح توفير الغطاء للمجرمين في التمادي في جرائمهم! وبعد كل هذا هنالك من يعلن عن رضائه عن الجهد المبذول في المرحلة الانتقالية، بل ويعرب عن ثقته في تخطيها بسلام إلى البدء في جني قطوف الثورة، ويستاء ممن ينتقد وممن يغضب، ولا يولي أدنى اهتمام لمن يتحدث عن احتمالات قوية لهبة ثورية أخرى تعيد الأمور إلى نصابها! [email protected]