حقاً، هذا شيء غير مفهوم، بل إنه باعث على الارتياب والارتباك والضجر! بعض مَن كانوا ينتقدون بشدّة تأخر، أو تأخير، الانتخابات البرلمانية، وكانوا يضعون فى تحليلاتهم سيناريوهات عن مؤامرات كونية وعن تدخل قوى خارجية، وعن استسلام، وأحياناً تواطؤ، المسئولين مع أعداء الوطن فى الخارج..إلخ، هم أنفسهم الذين يضعون الآن العراقيل أمام تحقيق هذا الإنجاز! يتصيدون الأخطاء وينفخون فيها، حتى إذا كانت كبيرة فى طبيعتها وليست فى حاجة للمبالغة، فإذا بالقضايا المتفجرة تشدّ الاهتمام على حساب موضوع الانتخابات البرلمانية التى كان الصراخ يعلو من أجلها، والتى بدأت إجراءاتها بالفعل. أنظر فقط إلى مجرد عينة من الأحداث التى وصل التصعيد فيها إلى المطالبة بوجوب الإقالة الفورية لحكومة محلب: قضية الطالبة مريم ميلاد التى حصلت على الصفر فى الثانوية العامة، وقضية الفساد فى وزارة الزراعة والتى أصدر الرئيس السيسى قراراً بإقالة الوزير وتقديمه للنيابة، وقضية مقتل السياح المكسيكيين..إلخ كل هذه قضايا مهمة، بل وعلى درجة عالية من الأهمية، ولكن: هل إقالة الحكومة هى الحل؟ هل بمجرد تغيير الحكومة سوف ينضبط أوتوماتيكياً أمر التسيب المنسوب لكونترول الثانوية العامة؟ وهل سوف يتلاشى الفساد فى وزارة الزراعة؟ وهل سوف نتفادى وقوع الأخطاء التى أدت إلى مقتل السياح المكسيكيين؟ ..إلخ ولكنهم كانوا يصرون فى كل مرة على وجوب إقالة الحكومة، برغم أنهم يُقررون فى أكثر من مناسبة أن منصب رئيس الوزراء، ومناصب الوزراء فى مصر، لا تعنى سوى أنهم جميعاً مجرد مجموعة من الموظفين ينفذون إرادة الرئيس، أى أن رؤساء الحكومات، بهذا المعنى، ليسوا مسؤولين إلا فى حدود قبولهم بالقيام بهذا الدور. ويعنى كلامهم أيضاً أن القادم لن يختلف عن السابق، مادام أن الواقع لم يتغير. ومن ناحية أخرى، فإن البرلمان المستهدَف تشكيله فى أقرب فرصة سوف يبتّ فى أمر الحكومة عن طريق ممثلى الشعب، بما يحسم الأمر وفق قواعد دستورية حسماً لا جدال حوله، ثم إن البرلمان على الأبواب، أى أن القرار القاطع بشأن الحكومة صار قريباً، كما أن المنطق يقول إنه من الأفضل لهم أن يوفروا طاقتهم للهدف الكبير بأن يكون لهم ممثلون فى البرلمان يعملون على أن يصير لرأيهم إمكانية للتحقق على الأرض. ولكنهم، يتجاهلون كل هذا، ويضغطون لاستصدار قرار من الرئيس بإقالة هذه الحكومة. لاحظ أنهم فى سياقات أخرى يدينون بأشد العبارات التوسع فى سلطات الرئيس التى تجعل منه فرعوناً وإلها، ويعيبون عليه أنه يُعيّن الحكومات ويغيرها بقرار فردى..إلخ وكانت مفاجأتهم التالية، أنه وبمجرد تقديم حكومة محلب لاستقالتها، إذا بهم ينتقلون وبمنتهى الرشاقة إلى فتح معركة أخرى أكثر شراسة بالهجوم على رئيس الوزراء المُكَلَّف، بمجرد مضى دقائق على إعلان اسمه، وراحوا يوجهون له الاتهامات التى تبدأ من التشكيك فى قدراته وتصل إلى الطعن فى نزاهته..إلخ إذا كان هؤلاء يريدون حقاً الانتهاء من تشكيل البرلمان، حتى تكتمل مؤسسات الدولة، وحتى نضع نهاية للمرحلة الانتقالية التى طالت بأكثر مما ينبغى، وحتى تُسحَب صلاحيات التشريع من الرئيس، وحتى يقوم البرلمان بمراقبة أعمال الحكومة وفق الدستور، فلماذا لا تتكثف الجهود من أجل تشكيل برلمان يوثق فى تبنيه ما يطرحونه؟ ولماذا لا يؤجَّل كل ما عدا هذا حتى يتشكل البرلمان الذى من مهامه الدستورية حسم كل هذه الأمور وأكثر منها؟! كل هذه المواقف، وغيرها كثير، يؤكد أن هؤلاء يخشون من خوض الانتخابات، بعد أن تبين لهم ضعف تواصلهم مع الجماهير، والصعوبة الشديدة فى الحصول على ثقتهم التى تُقاس بالتصويت فى الصندوق! بل لقد انسحب بعضهم من خوض الانتخابات لأسباب واهية، قالوا إنها مواقف مبدئية، وجعلوا من الواقعة حجة للنيل من العملية الانتخابية المستقبلية! من أهم غايات الديمقراطية أن يكون هناك مجالس تمثيلية يُناط بها مسؤوليات دستورية، وهذا كان ولا يزال مطلباً من مطالب الثورة، وهو ما يُرَتِّب واجبات على الأحزاب وعلى الأفراد المنخرطين فى السياسة، أن تكون لهم علاقات مباشرة مع الجماهير التى تشكل الجماعة الناخبة، وأن تتوطد هذه العلاقات، وأن تتطور، من أجل الحصول على أصواتهم فى الانتخابات، وهو ما لا يمكن أن يتحقق إلا بالتمكن من مهارات التواصل والإقناع، وبالمعرفة التفصيلية بواقع الجماهير ودراسة مشاكلها، وبالاجتهاد الدؤوب فى التوصل إلى حلول يرضى عنها الناس ويؤمنون أن هذا الحزب أو هذا الفرد هو الأفضل لتمثيلهم فى الحديث باسمهم فى البرلمان. إذا لم يتوفر كل هذا، فليست هناك فرصة فى الفوز فى الانتخابات، مهما كان لديك من أفكار رائعة، ومهما كان حُسْن نيتك، ومهما كان عمق إخلاصك فى تبنى قضايا الجماهير، ومهما كان حُبّك للوطن. [email protected]