ارتفاع سعر الخضروات والفاكهة، أو الشح في عرضها، ظاهرة يومية يعاني المواطن البسيط من آثارها، والكلمة الشائعة لتوصيف المشكلة هي «الجشع» الذي يتسم به التجار، لكن التفاصيل تحتاج إلى شرح مسهب وتحليل عميق. المقالات الاقتصادية المتخصصة قد تفيد في الفهم والإضاءة، لكن الوسيط الفني يبدو أكثر قدرة على التأثير والإقناع؛ ذلك أنه يحول الأمر إلى مجموعة من العلاقات الإنسانية المتشابكة، فضلاً عن أنه يتضمن رسالة ورؤية سياسية تتجاوز الظاهر المباشر، وهذا ما يفعله المخرج الكبير صلاح أبوسيف في فيلم «الفتوة». الصعيدي هريدي «فريد شوقي» واحد من النازحين إلى القاهرة بحثًا عن فرصة للزرق، ولا تبدو البداية مبشرة، فهو يتعرض للصفع على قفاه!، ولا يجد عملاً إلا أن يكون بديلاً للحمار في جر عربة النقل اليدوية. بمساعدة المعلمة حسنية «تحية كاريوكا»، يرتقى هريدي ليصبح واحدًا من العاملين المقربين في وكالة المعلم أبو زيد «زكي رستم»، وهو تاجر غول ذو نفوذ يحمل رتبة البكوية، ويسيطر بعلاقاته على إيقاع السوق وأسعاره، مستعينًا في ذلك بكل ما هو غير مشروع من الوسائل. يتحالف صغار التجار محاولين التصدي لهيمنة «أبو زيد»، لكن زعيم المعارضة «هريدي» يتحول بدوره إلى «طبعة جديدة» من المستغل القديم، وينتهي الفيلم بصراع دموي عنيف بين الطاغيتين، فيموت أبو زيد قتيلاً، ويُلقى القبض على هريدي، ويُسدل الستار على الصراع الثنائي بين الغريمين المتنافسين. من ناحية أخرى، فإن نهاية الفيلم تؤكد أن المشكلة ليست فردية تتعلق بسلوك سيء منحرف لشخص بعينه، لكنها قضية وثيقة الصلة بقوانين السوق ولعنة الاحتكار وهيمنة الفساد. على الرغم من الانتماء الاشتراكي للمخرج الواقعي الكبير، فإنه لا يتخلى عن النظرة الإنسانية التي لا تعرف الوعظ ولا تعترف بالمباشرة الفجة، ومن هنا يظهر الشخوص في الفيلم بشرًا تحكمهم صراعات متعددة المستويات، ولا أحد من مشاهدي الفيلم يملك أن يخفي إعجابه بالأداء الفذ للعملاق زكي رستم، الشرير الجشع الذي يتألق في تجسيد أبعاد الشخصية، ويضفي عليها الكثير من الحيوية. أكثر من نصف قرن بعد العرض الأول للفيلم، 1957، وما زالت المشكلة مطروحة قائمة؛ فالأسعار ترتفع لعوامل لا شأن لها بالتنافس الحر وقوانين العرض والطلب، وهناك من يستغلون ما تبقى من دم الفقراء ليضيفوا إلى أرصدتهم الملايين غير المشروعة!