عندما أحضره العدو لأمه ليعترف قالت له: «خليك راجل ولقد احتسبتك عند الله فى الجنة فلا تقدم لهم شيئًا» الشعوب العظيمة هى التى يتحول أبناؤها إلى ألغام فى وجه المغتصب.. وتتحول أرضها إلى لهيب تحت أقدامه ونار تشعل ملابسه.. هنا نستعيد ذكرى كفاح الشعب السيناوى ضد الاحتلال الصهيونى.. المناضل الذى بذل كل ما يستطيع دفاعا عن الوطن وانتقاما من الأعداء، لم يبق من نضاله الآن سوى ذكريات تملؤنا فخرا، ونظرات تلهب ظهورنا بما قصرنا فيه من حقه علينا، هو الآن يعيش بجسد تملؤه شظايا وقطع من المسامير، وضعها ضباط العدو فى جروحه أثناء تعذيبه يعيش بعين، بعد أن خلع العدو العين الأخرى أثناء التعذيب. لا يحتاج البطل السيناوى «موسى سلمى رويشد» إلى تعريف، ولكننا نتعرض لرحلته الطويلة من أجل أجيال جديدة، يجب أن تعرف ثمن الحرية كى تحافظ عليها، وأن تعى معنى الانتماء كى تبقى صامدة بجذورها، شامخة بغصونها وثمارها، نعرض ملحمة موسى رويشد بتفاصيلها كى يتعرف الأبناء على وقاحة العدو وغدره، وإجرامه ضد شعبنا فى سيناء الحبيبة، وفى مصر والوطن العربى. وإليك قصة الملحمة التى بدأت مع الهجوم الإسرائيلى الغادر عام 1967، ولم يكن موسى هو بطلها الوحيد وإنما شاركه فيها أهله وأقاربه وأصدقاء عديدون له.. منهم من استشهد ومنهم من أصيب، وكلهم سجلوا أسماءهم بأحرف من نور فى تاريخ الوطن. فى قرية «الخروبة» شرق العريش التقينا المجاهد موسى سلمى رويشد الذى فقد إحدى عينيه، وبرفقته ابنه محمد يتكئ عليه، وبدأ معنا حديث الذكريات.. يقول رويشد: «عندما بدأ صوت الطيران الإسرائيلى يخرق الأسماع صبيحة الخامس من يونيو كانت عائلة موسى رويشد تقطن بمنطقة الخروبة التى تضم أكبر عدد من المواقع العسكرية، من قلب هذه المواقع قامت المدفعية المصرية المضادة للطائرات والدبابات بمقاومة قوات العدو، فى دحرها على أعقابها ما اضطر قادة الجيش الإسرائيلى إلى تكثيف هجومها، لكنها خسرت أربع طائرات ودبابة من أكثر الأنواع تقدما، ولم تستطع دخول العريش إلا بعد إنزال مظلات خلف العسكرية، وبالتالى محاصرة المقاتلين المصريين حتى اضطروا إلى الاستسلام فتم صفهم وسحلهم على الأرض لتمر فوق أجسادهم الدبابات، بهذه المشاهد المرعبة التى لم نر مثلها من قبل رسخ فى صدورنا جبل كراهية ضد اليهود، وبدأنا نفكر فى الانتقام السريع لكرامتنا وأبناء وطننا الشهداء».. هكذا بدأ موسى رويشد حكيه للملحمة، موضحا أن دماء المصريين لا يمكن أن تذهب هدرا، وأن روح عربى واحد قتل فى أى حرب تستحق أن ننتقم لها من إسرائيل كلها. ويواصل موسى رويشد: «لقد خلفت قواتنا وراءها الدبابات والمدرعات والأسلحة والألغام، وفى ليلة مظلمة كنت أسير أنا وأخى محمد عندما سمعنا صوتا ينبعث من تحت شجرة عنب، فاتجهنا نحوه بحذر حتى تأكدنا أن صاحبه هو العميد مجدى محمد على قائد المنطقه والذى نجا من الإعدام الجماعى بأعجوبة، لكنه أصيب بطلق نارى فى فكه اليمنى، قدمنا له الإسعافات الأولية، ثم سألناه عن الطريقة التى نستطيع بها منع العدو من الاستفادة من الأسلحة المصرية فطلب منا أن نحضر له لغما، وعلى هذا اللغم علمنا القائد المصاب كيفية فك وتركيب الألغام، فكان ذلك الدرس مقدمة لأول عملية لنا حيث قمنا بوضع لغمين متوازيين على طريق ترابى يمر بالقرب من أربع دبابات مصرية.. وكم كان المشهد رائعا عندما جاءت ثلاث سيارات إسرائيلية فى اليوم التالى فانفجر اللغمين وقتل كل ركاب السيارة الأولى بينما أصيب الباقون فى السيارات الأخرى وعلمنا فيما بعد أن جنرالا فى جيش العدو لقى حتفه فى هذه العملية الأولى، وتأكدنا من ذلك بعد ما كتبوا اسمه «شموئيل آررام» على مشاهد قبره». ويواصل البطل: «كان طبيعيا أن يسعى الإسرائيليون لسحب الدبابات ولذلك قمنا بتلغيمها حتى حضرت قوة كبيرة فانفجرت فيهم وقتل كل المتواجدين بالمكان وهكذا عملنا بتعليمات القائد المصاب الذى ساعده والدى حتى وصل إلى بحيرة البردويل ومنها إلى بورسعيد وصولا إلى مسقط رأسه فى المحلة الكبرى، وفى عام 1968م كان موعدنا مع أول اختبار عصيب، فقد اكتشفت إحدى الدوريات الإسرائيلية أمرى أنا وشقيقى أثناء قيامنا بنصب أحد الألغام، وعلى الفور أطلقت نحونا النار فانفجر اللغم واستشهد شقيقى محمد، لم أستسلم للحزن بل بدأت أبحث عن رفيق يقوم بمساعدتى وكان صديقى سلام حسين عرادة، هو الفدائى الذى استأمنته على سرى وحياتى وخططى وعلى هدفى فى الانتقام من هذا العدو الغاصب؛ والحقيقة كان عرادة أكثر من عظيم وأعظم من شجاع فشاركنى كل العمليات حتى جاءت حرب أكتوبر، وقررنا أن يكون لنا دور فى ضرب العدو من خطوطه الخلفية، وقد سنحت لنا الفرصة فعلا عندما كرس الإسرائيليون صناديق الذخيرة على طريق الحسنة - رأس سدر كى تكون مددا لقواتهم على جبهة القناة، وقمت بمعاينة المكان فهالنى أن كميات الذخيرة هائلة وتفجيرها يحتاج إلى عمل خاص، فى هذه اللحظة هدانى تفكيرى إلى خطة جديدة تماما فقد أحضرت «قطا كبيرا» ووضعته فى جوال ثم صنعت كرة من القماش غمستها فى البنزين واتجهت بهما إلى مكان الذخيرة وربطت ذيل القط بالكرة عن طريق سلك حديد قبل أن أشعل النار فيها وبسرعة اتجه القط إلى مكان الذخيرة ففجرها بالكامل وكانت ضربة موجعة للعدو». ويستطرد موسى رويشد ليصل بروايته إلى عام 1974م ليقول «فى هذا العام شرعت إسرائيل فى إقامة مستوطنة فى الخروبة وقامت بطردنا من منازلنا واقتلعت أشجار الزيتون والتين والكروم حتى أصبحنا لاجئين فى وطننا وزيادة فى الإجرام قاموا بإطلاق النار علينا، أمام ذلك قررت وصديقى سلام عرادة، معاودة التحرك وقمنا فى أواخر عام 1975م بزرع لغم كبير بثلاثة صواعق بالقرب من محطة استراحة الجنود الإسرائيليين وزرعت فوقه لغما مضادا للأفراد وربطته بسلسلة فضية فى مؤخرتها عدد من المفاتيح فى ميدالية عليها صورة رئيس وزراء إسرائيل السابق «بن جوريون»، وكانت بداية السلسلة مدفونة فى التراب على مفجر اللغم بينما نهايتها بين كراسى الجنود.. وعندما نزل 50 جنديا من أحد الأتوبيسات مال أحدهم على الميدالية ظنا منه أنها لأحد زملائه وكما خططت انفجر اللغم وقتل عدد كبير من الجنود وخلفت وراءهم حفرة عمقها 3 أمتار». ويكمل موسى رويشد: «استشاط الإسرائيليون غيظا وأخذوا يبحثون عن الفاعل وفرضوا طوقا أمنيا على تحركات الرجال وهنا جاء دور والدتى سالمة شميط لتمارس واجبها الوطنى، حيث كانت تحضر لنا الألغام فى «مخلاتها» أو بين الحشائش التى تحملها فوق حمارتها». ويكمل موسى رويشد بكل فخر قصة نضاله قائلا «وفى مارس عام 1976م طلبنا من والدتى توصيل لغمين إلى المنطقة القريبة من مبنى المحافظة ونصبنا اللغم الأول فى محطة نزول الجنود، والآخر على طريق جانبى يستخدمه العدو فى حالة تعطل الطريق الأول، وبعد يومين انفجر اللغم الأول فى أتوبيس محمل بالجنود فمات 15 جنديا ودمر الأتوبيس تماما وتم تغيير خط سير العربات للطريق الجانبى، وانفجر اللغم الثانى فى ناقلة للذخائر فدمرت وتعطلت عملية إسعاف المصابين، وفى هذه الأثناء كانت شقيقتى مريم تراقب لنا المكان وتعطى لنا النتائج والإصابات، حيث كانت ترعى الأغنام بالقرب من المكان، ولكن جنود العدو أطلقوا النار بصورة عشوائية، ما أدى إلى إصابة شقيقتى بطلق نارى فى ساقيها أدى إلى إصابتها بعاهة مستديمة، وفى أواخر عام 1976 تمت زراعة لغم فى محطة بترول عسكرية بالعريش، أدى لتدمير سيارة الحاكم العسكرى بالعريش واحتراق محطة البترول، ومع قدوم عام 1977م قمنا بنصب لغمين على شاطئ البحر بالعريش فى أرض ترابية، حيث يقوم العدو بمسح أرض الشاطئ يوميا صباحا ومساء، حتى يتمكنوا من قص الأثر لمن يخرج من البحر فى الليل وقد تم انفجار اللغمين فى السيارة التى تقوم بمسح الشاطئ وكنا نختبئ فى الأشجار القريبة من مكان الانفجار وبمجرد الانفجار قمنا بسرعة وقضينا على المصابين من الجنود الإسرائيليين، لكن فى يوم الرابع من يوليو عام 1977 م وعندما كنا نقوم بنصب أحد الألغام بمحطة بترول عسكرية تابعة لشركة أتوبيسات «إيجد» بالعريش أوقفنا سيارتنا بحجة تغيير الإطارات لنزرع اللغم وقبل أن نتحرك بثوان، أطلق الجنود الموجودون بمحطة الكهرباء النار علينا فأصابت الرصاصة اللغم الذى بين أيدينا، فاستشهد صديقى سلام عرادة فورا، ونقلت أنا لمستشفى العريش العام القريب من مكان الحادث، وحاول كل من الدكتور كامل الشعراوى والدكتور عبدالهادى الديب، إنقاذى وإيقاف النزيف إلا أن جنود الاحتلال جاءوا ونقلونى فى سيارة عسكرية إلى سجن «الرملة» وكان جسدى محترقا تماما ومملوءا بالشظايا ووضعت فى زنزانة صغيرة والنزيف مستمر وبدأ التحقيق معى ثلاثة ضباط كانت أسماؤهم «أبوحديد» و«أبوإسحاق» و«أبوسيف» رفضوا أن يتم علاجى حتى أعترف على عملياتى السابقة، لم أعترف ولم أتكلم، فقاموا بتكسير قفصى الصدرى، وفتشوا بيتى بالخروبة وأتوا بوالدتى وزوجتى إلى السجن وعذبوهما أشد العذاب وأدخلوا والدتى علىَّ بعد أن قالوا لها إن ابنك ممزق ومقطع إربا، وقال لها الضابط أبوحديد اجعلى ابنك يعترف علشان نعالجه، وعندما رأتنى قالت «خليك راجل ولقد احتسبتك عند الله فى الجنة» فاستشاط ضابط المخابرات غيظا فركلها وضربها على رأسها وأخرجها من مكان التحقيق، وقال لها سأجعل الكلاب تأكل جسمه، استخدموا جميع أنواع التعذيب معى للاعتراف، وأنا محترق ورائحتى متعفنة والدود يخرج من جسمى من الجانب الأيمن واستخدموا معى الماء الساخن، وكانوا ينزلوننى من الدور الثانى إلى الدور الأرضى جراً من الأقدام على السلالم ما أدى إلى انسلاخ جلدى مرة ثانية». صمت رويشد للحظات وبنبرة فخر أضاف: «فى أثناء التحقيق معى دخل علينا صحفى إسرائيلى يدعى مشئول منشية مراسل إذاعة الجيش الإسرائيلى، وكان يعمل فى صحيفة «هآرتس» وقال للضابط الذى يحقق معى يريد تسجيل أقواله لإذاعتها لى الهواء فقال له إنه لا يتكلم واستخدمت معه جميع أنواع التعذيب، فقال له الصحفى أخرجوا عينيه من جسده حتى يعترف فأخذوا بنصيحته وقاموا بسحب عينى من جسدى وأنا أصرخ بأعلى صوتى على ثلاث فترات حتى أعترف لهم، ولكننى لم أعترف وبعد أربعة أشهر من التعذيب والتحقيق قدمونى إلى المحكمة التى قضت بسجنى 25 عاما وفى يونيو عام 1980م جاءنى الصليب الأحمر الدولى، وأبلغنى أن السلطات المصرية طلبتنى مقابل جثث لجنود العدو، وعدت إلى مصر الغالية». وعن الوضع الحالى فى سيناء يقول المجاهد موسى رويشد: «الموساد يتدخل فى سيناء ويلعب فيها لوضعها فى حالة عدم الاستقرار، الأمر خطير للغاية وعلى القوى الوطنية أن تتكاتف وتتلاحم من أجل مصر بعيدا على الصراعات السياسية، التى لا تجدى، لأن الوطن يحتاج منا الكثير، احموا سيناء من الخطر، إسرائيل تخطط لنا». ويختتم المناضل موسى كلامه: «أنا الآن أعيش كفيف العين، وأحتاج إلى قرنية تساعدنى على أن أرى بعينى كأى إنسان عادى».