"شيء كبير أن يكون للإنسان قلم، ولكنْ شيء نفيس أن يكون للإنسان موقف، ومن نِعم الله عليّ أن وهبني الكلمة والقرار، أعطاني القدرة على الاختيار الصعب، فعرفت المواقف، وتحملت في سبيل مواقفي الكثير وعلوت على الإغراءات والعروض والمناصب والبريق، فأعز منها جميعًا تراب هذا البلد كل ذرة من هذا التراب" أحد أهم وأبرز مقولاتها. واحدة ممن تولوا الدفاع عن قضايا المجتمع المصري باستماتة، اقترن اسمها بقضايا أثارت خلالها العديد من المعارك دفاعا عن مصر وحضارتها وشعبها، من أهمها قضية هضبة الأهرام وقضية دفن النفايات الذرية وقضية الدفاع عن قبة الحسين وقضية الدفاع عن الآثار الإسلامية وقضية أبو الهول وقضية الآثار المصرية التي استولت عليها إسرائيل أثناء احتلالها سيناء، وغيرها من القضايا التي تبنتها وافنت عمرها في الوصول لما يرتقي بأمتها الغالية، بدأت رحلتها في الحياة قبل ميلادها بستة أشهر عندما مر بعقل أبيها التاجر في ذات ليلة قبل مولدها بعدة أشهر، رؤية كالصحو عرف فيها الأب أن مولوده القادم فتاة، وأن اسمها نعمات، وأن شأنها في الحياة كبير، وكانت روؤيته حقيقة فأنجب صبية ذكية تمتلك من الهبات الكثير، قدرة على الحفظ والتذكر، وبلاغة في التعبير، وسعة في الأفق، وشجاعة في الحق، وإحساس بالجمال.. هى الكاتبة الكبيرة نعمات أحمد فؤاد، التى ودعت عالمنا اليوم عن عمر يناهز90 عاماً. ولدت نعمان أحمد فؤاد بمغاغة بمحافظة المنيا، وحفظت القرآن الكريم في طفولتها، ثم انتقلت من مغاغة إلى ضاحية حلوان في القاهرة لتلتحق بالمدرسة الثانوية الداخلية للبنات في حلوان وتخرجت من كلية الآداب جامعة القاهرة، ونالت درجة الماجستير في أدب المازني، أما رسالة الدكتوراة فكانت عن "النيل في الأدب العربي". كان يعتقد أهالي قرية مغاغة خصوصًا الأجداد، أن يتوقف تعليم الفتاة عند المرحلة الابتدائية، وبعد ذلك يعقبها الزواج، إلا أن موهبة نعمات ورؤية والدها الخاصة بها، كانتا الدافع كي يتصدى الأب لرغبة جدها في منعها من التعليم، فيصر أبوها علي إرسالها إلي القاهرة لتلتحق بمدرسة حلوان الثانوية الداخلية للبنات، كان شتاؤها دراسة، وصيفها قراءة لما أعده لها والدها من كتب سبق له قراءتها وتعليك ما فيها من أجزاء هامة. كان رحيل والدها سببا في توطد علاقة نعمات بكل ما يستطيع منحها مشاعر الأبوة، ولهذا كانت صلتها بأحمد حسن الزيات الذي كان يراها امتداداً له، والعقاد الذي قدمت للمكتبة العربية مؤلفاً في أدبه، وغير هذين من أدباء جيل العمالقة، وهو ما قالت عنه في حوار سابق لها: "عندما اختفي الأب البطل من أمام الصغيرة توطدت علاقتي بآباء غيره، ولعل هذا سر ارتباطي بالنيل الذي اعتبرته الأب الأكبر منذ أن تفتحت عيناي علي الحياة، وزادت صلتي به عندما كنت أصحب والدي في مسيرته الصباحية المبكرة بجوار شاطئ النيل للمرور علي أرضه". تكبر الصبية وتلتحق بكلية الآداب وتبدأ خطواتها الأولى في عالم الكتابة وهي في السنة الأولي، ليكون القرار بعد التخرج بمواصلة الدراسة العلمية فتحصل على الماجستير برسالة كان محورها أدب عبد القادر المازني لتكون أول دراسة يدور مضمونها عن الأدب الحديث وكان ذلك في العام 1952، تلا ذلك بعد عدة سنوات رسالة أخرى نالت بها الدكتوراه كان عنوانها "النيل في الأدب العربي"، وهي الدراسة التي أكدت فيها أن النيل جزء من تراث المصري وحياته اليومية، من خلال ترحال دام شهوراً طويلة بين مدن وقري مصر، شمالها وجنوبها، غربها وشرقها، تجلس وتستمع، تسأل وتنتظر الإجابة، لتخرج في بدايات الستينيات برسالتها عن النيل. في منتصف الخمسينيات كان الزواج من رفيق رحلتها في الحياة محمد طاهر، الذي كان يمتلك مصنعاً للأدوية وداراً لنشر الكتب، وقبل لقائه بها كان عازفاً عن الزواج، وكان قد قال في إحدي لقائاته "منذ طفولتي الغراء كنت عاشقاً للقراءة التي كانت رفيقتي في كل لحظة، حتي إنني قررت عدم الزواج حتي لا أرتبط بامرأة تستشعر تفضيلي للقراءة عليها، ولكن سمحت لي الظروف أن ألتقي نعمات أثناء إنهائي بعض الأوراق في عملها بوزارة الثقافة، وكنت كلما ترددت عليها وجدتها تمسك بكتاب تقرأ فيه، فكان الحب والزواج في منتصف الخمسينيات، و شعرت بحسي الأدبي والمتخصص في عالم الكتب أنني أمام موهبة قلما تتكرر، حتي إنني منعتها من القيام بمهام الزوجات في المنزل فكان لدينا الطاهي والخادمة، وأذكر أنني عدت من عملي ذات يوم ووجدتها تقف في المطبخ فنهرتها بقولي إن ملايين النساء يستطعن القيام بتلك الأمور، ولكن كم واحدة منهن تمتلك هبة الكتابة التي شبهها الأديب الراحل أحمد حسن الزيات في مقدمة كتابها "بلادي الجميلة" بمي زيادة، مؤكداً على تفوق نعمات في الأسلوب" وللدكتورة نعمات مؤلفات عدة عن "إبراهيم عبد القادر المازني"، و"أم كلثوم والنيل"، كذلك عن "العقاد "والشاعر" أحمد رامي"، كما قامت اليونسكو بترجمة كتابها" إلي ابنتي" للإنجليزية. منزلها قطعة منها، أرجاء رحبة تفتح ذراعيها لتحيتك، وأثاث عربي الملامح يلفت نظرك من اللحظة الأولي، وكتب ضاقت بها مكتبتها فتناثرت بين مائدة ومقعد، ومكتب صغير يناسب كاتبة أشاد بها العمالقة، يجاوره منضدة ليست كغيرها، فهي صممت لتحوي خريطة أثرية طبعتها الموسوعة البريطانية تعود لبدايات القرن الماضي، بها مقارنات لحضارات العالم القديم، وإلي جوار كل هذا كتب أثرية نادرة هي هدية زوجها لها.