إذا كنت ممن استمع يومًا لأبواق «الدواعش» الإعلامية، ونظر نظرة رعب مما يصنعونه بالمسلمين وغيرهم، من إزهاق للأرواح، وسفك للدماء، وحرق للأجساد، حتما ستكون سمعتهم تتشدق أفواههم بقوله تعالى: «قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ». وهذه الآية التي حملت رقم 29 وردت في سورة التوبة، قال عنها مجاهد وهو من كبار علماء أهل السنة والجماعة: نزلت هذه الآية حين أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بقتال الروم، فغزا بعد نزولها غزوة تبوك. ونزلت سورة التوبة، أو البراءة، كما افتتحت السورة آياتها بالاسم الأخير، في السنة التاسعة من الهجرة، حينما بعث النبى، أبوبكر الصديق على رأس وفد كبير من المسلمين لزيارة بيت الله الحرام، لأداء فريضة الحج، الركن الأخير من أركان الرسالة الخاتمة لمن كان يملك القدرة والمقدرة، وذبح الهدي (وهو ما منعه المشركون). ولها تسميات أخرى كسورة براءة، وسورة القتال، وسبب تسميتها باسم «التوبة» يرجع إلى قصة الصحابة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك مع النبى، وقد ذكرهم الله بعددهم في آخر السورة مانحًا إياهم صك التوبة، وهم: كعب بن مالك السلمى، ومرارة بن الربيع العامرى، وهلال بن أمية الواقفى، وكلهم من الأنصار، رضى الله عنهم. وسورة التوبة من السور المدنية التي تُعنى بجانب التشريع، وهى من أواخر ما نزل على رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) فقد روى البخارى عن البراء بن عازب أن آخر سورة نزلت براءة، وروى الحافظ ابن كثير: أن أول هذه السورة نزلت على رسول الله عند مرجعه من غزوة تبوك، وبعث أبا بكر الصديق أميرًا على الحج تلك السنة، ليقيم للناس مناسكهم، فلما قفل أتبعه بعلى بن أبى طالب ليكون مبلغًا عن رسول الله ما فيها من الأحكام، نزلت في السنة التاسعة من الهجرة، وهى السنة التي خرج فيها رسول الله لغزو الروم، واشتهرت بين الغزوات النبوية ب«غزوة تبوك» وكانت في حرٍّ شديد، وسفر بعيد، حين طابت الثمار، وأخلد الناس إلى نعيم الحياة، فكانت ابتلاء لإِيمان المؤمنين وامتحانًا لصدقهم وإِخلاصهم لدين الله، وتمييزًا بينهم وبين المنافقين. تسمى هذه السورة بأسماء عديدة أوصلها بعض المفسرين إِلى أربعة عشر اسمًا، منها الفاضحة التي فضحت المنافقين الذين تخلوا عن رسول الله بسبب شدة حر الصحراء، جاءت بين سورتى الأنفال ويونس، نزلت بعد سورة «المائدة». ونزلت سورة براءة في نقض ما بين رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والمشركين من العهد الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم، وهو ألا يصد من المشركين عن البيت أحد جاءه، ولا يخاف أحد في الشهر الحرام، وكان ذلك عهدًا عامًا بين المسلمين، بقيادة الرسول، وأهل الشرك، وكانت بين ذلك عهود بين رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقبائل من العرب خصائص، إلى آجال مسماة، فنزلت فيه وفيمن تخلف من المنافقين عنه في تبوك وفى قول من قال منهم فكشف الله تعالى فيها سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون، منهم من سمى لنا، ومنهم من لم يسم لنا، فقال عز وجل: « بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ»: أي لأهل العهد العام من أهل الشرك «فسِيحُوا فِى الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ» أي بعد هذه الحجة «فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ» أي العهد الخاص إلى الأجل المسمى «ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ. فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ»، أي من هؤلاء الذين أمرتك بقتلهم، وهنا المقصود به حالة الحرب الذي يكون المشركون في حالة قتال مع المؤمنين، بدليل أن قال الله تعالى في موضع آخر «فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا»، ومما يؤكد هذا المعنى هو الآية الواردة في نفس السورة: «وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ»، أي لو أحد من أعداء الدعوة الإسلامية، طلب منك العون والمساعدة والأمان يا رسول الله فأعطه له وذلك بسبب أنهم غير متأكدين أن هذه الرسالة من عند الله بدليل آخر الآية: «ذلك بأنهم قوم لا يفقهون»، أي لا يعرفون الحق ولا يعلمونه. أما قوله تعالى الذي يستدل به داعش: «كيف يكون للمشركين عهد»، فهو خاص بمن يحاربون الدعوة ونبيها، وليس كل أهل الكتاب، الذين لا نرى منهم إلا السلام والتعاون، وإلا لما ترك النبى اليهود معه في المدينةالمنورة وعقد معهم ميثاقًا، كان بمثابة أول دستور عرفته البشرية. وقال ابن إسحاق، وهو من كبار علماء المسلمين ومحدثيهم: لما نزلت براءة على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد كان بعث أبا بكر الصديق ليقيم للناس الحج قيل له: يا رسول الله لو بعثت بها إلى أبى بكر فقال: «لا يؤدى عنى إلا رجل من أهل بيتى»، ثم دعا على بن أبى طالب رضوان الله عليه فقال له: «اخرج بهذه القصة من صدر براءة، وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى، أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته»، فخرج على بن أبى طالب رضوان الله عليه على ناقة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، العضباء، حتى أدرك أبا بكر بالطريق فلما رآه أبوبكر بالطريق قال أأمير أم مأمور؟ فقال بل مأمور ثم مضيا، فأقام أبوبكر للناس الحج والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية، حتى إذا كان يوم النحر قام على بن أبى طالب رضى الله عنه فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: أيها الناس إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عهد فهو له إلى مدته، وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذن فيهم ليرجع كل قوم إلى مأمنهم أو بلادهم، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة إلا أحد كان له عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عهد إلى مدة فهو له إلى مدته، فلم يحج بعد ذلك العام مشرك ولم يطف بالبيت عريان، ثم قدما على رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وقد أُمهل المعاهدون لأجل معلوم منهم إلى انتهاء مدتهم، فقال تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}. كما أمهل من لا عهد له من المشركين إلى انسلاخ الأشهر الحرم، حيث يصبحون بعدها في حالة حرب مع المسلمين، قال تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. وقد كلف النبى صلى الله عليه وسلم عليًا بإعلان نقض العهود على مسامع المشركين في موسم الحج، مراعاة لما تعارف عليه العرب فيما بينهم في عقد العهود ونقضها، ألا يتولى ذلك إلا سيد القبيلة أو رجل من رهطه، وهذا العرف ليس فيه منافاة للإسلام، فلذلك تدارك النبى، صلى الله عليه وسلم، الأمر وأرسل عليًا بذلك، فهذا هو السبب في تكليف على بتبليغ صدر صورة براءة، لا ما زعمته الرافضة من أن ذلك للإشارة إلى أن عليًا أحق بالخلافة من أبى بكر، وقد علق على ذلك الدكتور محمد أبوشهبة فقال: ولا أدرى كيف غفلوا عن قول الصديق له: أمير أم مأمور؟ وكيف يكون المأمور أحق بالخلافة من الأمير؟! وقد كانت هذه الحجة بمثابة التوطئة للحجة الكبرى وهى حجة الوداع. لقد أُعلن في حجة أبى بكر أن عهد الأصنام قد انقضى، وأن مرحلة جديدة قد بدأت، وما على الناس إلا أن يستجيبوا لشرع الله تعالى، فبعد هذا الإعلان الذي انتشر بين قبائل العرب في الجزيرة، أيقنت تلك القبائل أن الأمر جد، وأن عهد الوثنية قد انقضى فعلًا، فأخذت ترسل وفودها معلنة إسلامها ودخولها. قال ابن إسحاق: فكان هذا من براءة فيمن كان من أهل الشرك من أهل العهد العام وأهل المدة إلى الأجل المسمى. فهل بعد هذا البيان يقال على سور القرآن إنها تدعو لقتال الآخر؟ ولا تقبل ثقافة التعايش السلمي؟.. وترفض وجود الآخر؟. كما يفعل داعش.. والإسلام وتعاليمه بريء منه براءة الذئب من دم ابن يعقوب.