لم يكن مقبولاً لدي المسلمين بعد فتح مكة. وانتصارهم في مواقع كثيرة. أن تظل الكعبة مقراً مقدساً للمشركين. يطوفون حولها عراة يتقربون لأصنامهم. ويقدمون القرابين. ويغنون بتوسلهم إليها.. لم يكن من المستساغ والمقبول عقلاً وإيماناً أن تظل الكعبة ملجأ لعبدة أصنام يتمسحون بها متخذينها معبوداً لهم من دون الله. إن استمرار مظاهر الشرك والتمسك بالأوثان.. هو استمرار لإلغاء العقل وضياع العلم. وسيطرة الجهل. وكأن الدعوة الإسلامية ما ظهرت. ونبوة محمد ما كانت والحروب التي دارت بين معسكر الشرك ومعسكر التوحيد ما كان لها أن تدور. ويموت من يموت من المشركين. ويستشهد من استشهد من المسلمين. ولذلك كان ولابد أن تنتهي مهزلة تواجد المشركين من العرب حول الكعبة يغنون ويرقصون ويعبدون أصنامهم ويتوسلون بها. من أجل هذا لم يبادر الرسول صلي الله عليه وسلم بالحج عند قوله من غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة غير قابل أن يحج إلي بيت الله الحرام والمشركون يطوفون عراة منشدين ما يقدسون به الهتهم من الأصنام.. بعث النبي الصديق أبا بكر علي رأس بعثة الحج في تلك السنة. ولأنه ليس من دأب محمد صلي الله عليه وسلم أن يخالف ما وعد وينكث ما عاهد. ولابد أن يعلن للطرف الآخر ما يريده ليكون علي علم ودراية بما انتواه سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم تبعاً لما أوحي إليه من أوامر قرآنية.. وكان الرسول بعد فتح مكة قد أبرم عهوداً وأنشأ عقوداً مع قبائل العرب في الجزيرة العربية الذين توافدوا إلي المدينة بعد انتصار المسلمين وازدياد قوتهم. كان من بين ما تعاهدوا عليه معه أن يتمكنوا من زيارة الكعبة والطواف حولها. لما أنزل الله تعالي سورة التوبة أمر الرسول صلي الله عليه وسلم علياً بن أبي طالب باللحاق بأبي بكر الصديق يتلو علي الناس: "براءة من الله ورسوله إلي الذين عاهدتم من المشركين. فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين. فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم" التوبة: 31 وأكمل علي قراءة نحو أربعين اية من مطلع السورة. ثم صاح منادياً بمباديء أربعة رسخت الدعوة الإسلامية في الجزيرة العربية ومكنت لدين الله فيها مدعماً بالعزة والسيادة لتكون كلمة الله هي المسيطرة والداعمة أركان الإيمان. والقضاء التام النهائي علي الشرك والوثنية. والفصل بين الإيمان والكفر. والمباديء الأربعة التي أعلنها علي بن أبي طالب نيابة عن سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم هي أنه لا يدخل الجنة كافر. لا يحج بعد العام مشرك. ولا يطوف بالبيت عُريان. والعهود إلي مدتها. بهذا أرسي محمد صلي الله عليه وسلم قاعدة أن من عاهد لا ينقض العهد وعليه إعلام المتعاهد الآخر بأن العهد إلي مدته دون أن يمتد أو يجدد. ولا يأخذ المتعاهد الآخر علي غرة. ينقض ما اتفق عليه. وأن مكة لا يدخلها مشرك وا وثني إذ لا مكان لعبادة غير الله في تلك البقعة الطاهرة. وكان المشركون واليهود كلما عاهدوا عهداً نقضوه. وخانوا الاتفاق. وارتكبوا من الحماقات ما يظنون أنهم بذلك يستطيعون القضاء علي محمد ودعوته. وهزيمة أصحابه. ولم يشأ الرسول الكريم أن يحيد عما أمره الله به من وفاء وأمانة ولا يأخذ معاهده علي غرة أخذاً بمعاملة المثل. وفي العام التالي أدي الرسول عليه أفضل الصلوات والسلام فريضة الحج بعد أن طهرت الكعبة من مشركي الجزيرة العربية ولتكون الحجة الوحيدة التي أداها سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم ليعلم المسلمون أن المستطيع لأدائها ملزم بها مرة واحدة في العمر. لم يثقل الله علي عباده في أداء تلك الفريضة لما يصاحبها من عناء وتعب ومشقة جسمانية ومادية. وكانت حجته صلي الله عليه وسلم قبل وفاته بشهور قليلة. وفي تلك الحجة تلا علي الناس قول الله تعالي : "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً" وخطب خطباً كثيرة يتلوها الزمان في أسماع البشر مجد فيها الإنسان وأوصي بالمرأة ووضع الأسس الاجتماعية لكثير من الأمور» طلب من المسلمين أن يسمعوا ويعوا لعله لا يلاقيهم بعد عامهم هذا قائلاً: "اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً". كررها في كل خطبة خطبها في هذه الحجة. ولعلنا جميعاً قرأنا وسمعنا قوله في هذه الخطب ووصاياه. وقبل مضي ثلاثة أشهر من أداء فريضة الحج توفي الرسول صلي الله عليه وسلم ولذلك سميت بحجة الوداع. وفي خطبه كأنه أراد أن يعرَّف الناس أن محمداً مكتوب عليه الرحيل مثل باقي البشر. وأن عظمته في إنسانيته. وقوته في إيمانه. وصدقه في تبليغ ما أوحي إليه لم يدع لنفسه ميزة تخرجه عن كونه بشراً حباه الله بالرسالة إلي الإنسانية. يجري عليه ما يجري علي كل الناس من صحة ومرض. وقوة وضعف. وحياة وموت فهم أصحابه ذلك. وعلموا أن نبيهم له من المكانة ما ثبتها صدقه في أداء رسالته التي حمَّلها له المولي سبحانه وتعالي وعظمته تتمثل في كونه إنساناً يجمع كل صفات الأخلاق الحميدة.. صفة الرحمة. والكرم. والشجاعة. والتفكير السليم. يستشير أصحابه فيما لم يرد فيه نص. ويأخذ بآراء قد تخالف رأياً اجتهد فيه مثلما حدث يوم بدر حين أخذ برأي صحابي في المكان الذي اختاره لأداء المعركة. وحين أخذ برأي سلمان الفارسي في حفر الخندق. وفي يوم أحد كان يري البقاء في المدينة. والتحصن بها. إلا أن بعض الأنصار رأي الخروج لملاقاة قريش. وهكذا.. كان مثال التواضع يقول لبعض أصحابه حين ارتجفوا أمامه: "أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد". صلي الله عليك يا رسول الله علمتنا كيف تكون العبادة. وكيف يكون التواضع. وكيف تكون الحكمة والموعظة الحسنة.