عاش بالشعر وللشعر، فكان ما كان له من محبة فى قلوب المحيطين به.. هذا ما يدركه من يقترب من حمى الشاعر الكبير محمد محمد محمد الشهاوى، الذى يعتبره المنتمون إلى الوسط الأدبى «أيقونة كفر الشيخ»، والقلب النابض لقرية «عين الحياة» التى ولد وعاش فيها متصوفا زاهدا، يكتفى بالقصيدة غذاء لروحه، فلا يطلب منه جسده إلا ما يقيم صلبه، وظل كذلك إلى أن تمرد عليه جهازه الهضمى، فانتقل إلى المستشفى ليعيش على المحاليل، ويبقى وعيه متيقظا بالحديث مع زواره أيضا عن الشعر والأدب، كأنه قطع عهدا على نفسه ألا يشغله عن الشعر شيء حتى المرض. ولم تكن هذه الحالة وليدة مرحلة متأخرة فى عمر الشاعر الكبير، فسيرته الذاتية تؤكد أنه لم يحد عن هذا النهج منذ نشأته، فقد ألحقه أبوه بكتاب القرية فحفظ القرآن الكريم، ثم التحق بالمعهد الدينى بدسوق، وظهرت موهبته الشعرية مبكرة فى المرحلة الإعدادية، وملكت عليه نفسه فى المرحة الثانوية، فأخذ ينهل من ديوان العرب حتى نضجت موهبته، فنظم الشعر عذبًا رقيقًا. باكورة إنتاجه الأدبى كانت مجموعة شعرية عام صدرت 1962م بعنوان «ثورة الشعر» وهو لا يزال طالبا بالثانوية الأزهرية، قبل أن يبدأ رحلته مع حياة مليئة بالأشواك والآلام اعتصم خلالها بالشعر يبثه آلامه وهمومه وأشجانه، فأصدر ديوانه الثانى «قلتُ للشعر» عام 1972م ثم «مسافر فى الطوفان» 1985م و«زهرة اللوتس ترفض أن تهاجر» 1992م و«إشراقات التوحد» 2000م و«أقاليم اللهب ومرايا القلب الأخضر» 2001م و«مكابدات المغنى والوتر» 2003م، ثم فى العام 2005 أصدرت له دائرة الثقافة والإعلام التابعة لحكومة إمارة الشارقة «قصائد مختارة». ولأنه يرى أن «النقد توأم الإبداع»، بحسب ما صرح فى حوار صحفى قبل أعوام، فقد قدم عددا من الدراسات النقدية فى أعمال الكثير من المبدعين الآخرين، منها «دراسات عن صالح الشرنوبى: النهر الذى أسكر العالم»، و«أنور المعداوى: الأسطورة والمأساة»، و«محمد السيد شحاتة: شاعر البرارى»، و«على قنديل: كونشرتو الإمكان»، و«عبدالمنعم مطاوع: السندباد الذى جاب العالم من موقعه»، و«السيد عبده سليم: صرخة الضمير المثقل بتمرده الخاص»، قبل أن يقدم سيرته الذاتية فى كتابه «محمد محمد الشهاوى: زهرة اللوتس ترفض أن تهاجر». وتحمل الصفحة التعريفية ب«الشهاوى» على الإنترنت، موقفا -على طرافته- يعكس تمسكه بالشعر أداة للتعبير عن كل ما يواجهه من منغصات، فحينما كان طالبا بمعهد دسوق الثانوى، تولى إدارة المعهد شيخ ضرير كان يعامل الطلاب بقسوة شديدة، فنظم «الشهاوى» قصيدة يهجو فيها شيخ المعهد، وحفظها الطلاب جميعا وهى بعنوان «إلى الأعمى المتكبر»، يقول فيها: من فضل ربى أنه أعماكا فأراح من يلقاك إذ يلقاكا لو كان يعلم أن فيك منافعًا يا أيها الأعمى لما أعماكا سبحانه ملك لطيف عادل قد أمّن الدنيا بمحو رؤاكا لو كان للجهل المركّب دولة ما كان يحكم مُلكَها إلاكا إن قمت تخطب فالخطوب نوازل والكرب والبلوى هنا وهناكا وخلال مسيرته الشعرية، حرص «الشهاوى» على نيل عضوية اتحاد الكتاب، وجماعة الفنانين والأدباء بأتيليه القاهرة، وجمعية الأدباء بالقاهرة، وإلى جانب ذلك اختير لعضوية لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة، وأمانة مؤتمر أدباء مصر، وأسرة تحرير مجلة «سنابل» (1969: 1972)، وأسرة تحرير مجلة «دلتا الثقافية»، وأسرة تحرير مجلة «أوراق ثقافية»، وترأس فى أوقات سابقة، تحرير مجلة «إشراقة»، وسلسلة كتب «إصدارات إشراقة»، والإصدار الثانى والثالث من مجلة «سنابل». تلقى «الشهاوى» عدة تكريمات فى العيد الأول والثانى الثقافى، والمؤتمر الأول لأدباء مصر 1984، إلى جانب تكريم من دولة الإمارات العربية المتحدة (أبوظبى 1996)، والشارقة بدولة الإمارات أيضا عام 2004، كما أقامت له معظم محافظات مصر مهرجانات تكريمية بمناسبة بلوغه سن المعاش عام 2000، وأقام له المجلس الأعلى للثقافة مهرجانا أدبيا وفنيا لتكريمه فى عيد ميلاده السبعين، وقد أصدر المجلس بهذه المناسبة كتابا تذكاريا عن تجربة الشاعر ضم كتابات وشهادات لكبار المبدعين والنقاد بعنوان «تحولات العاشق». ومثل «الشهاوى» مصر فى أكثر من مؤتمر عربى وأوروبى، بدءا من عام 1984، وهو مشارك دائم فى معرض الكتاب بالقاهرة والإسكندرية، ونشرت أشعاره فى العديد من المجلات والصحف المصرية والعربية، وتُرجِمت بعض أشعاره إلى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والبوسنية، وحصل على منحة تفرغ من وزارة الثقافة، للإبداع الشعرى، منذ عام 1994. ومن أهم الجوائز التى حصل عليها «الشهاوى»، الجائزة الأولى لأفضل قصيدة من «مؤسسة البابطين للإبداع الشعرى» عام 1996، والجائزة الأولى لأفضل ديوان شعر سنة 2000 من «مؤسسة أندلسية» عن ديوان «إشراقات التوحد»، والجائزة الأولى لأفضل ديوان شعر عام 2004 من «جمعية الأدباء» عن ديوان «مكابدات المغنى والوتر»، إلى جانب جائزة التميز كُبرَى جوائز اتحاد الكتاب عام 1997، وجوائز أولى على مستوى الجمهورية أعوام 1965 و1973 و1974. لكن حياة «الشهاوى» لم تكن بالهناء الذى يتصوره من يعلم بكل هذه التكريمات التى حازها، فقد عاش حياة قاسية لدرجة أنه فقد ابنه الوليد لأنه لم يكن يملك ثمنا لدواء طلبه الأطباء، كتب عن ذلك فى سبعينيات القرن المنقضى قصيدة بعنوان «الليل ومرايا الدموع» يقول فيها: هنا الأرض غانية ترتدى ورفق البنكنوت وها هو طفلى بلا ثمن لدواء يموت! هنا الأرض تأخذ زينتها: عملة صعبة تغادرنا للبلاد البعيدة وأمى القعيدة.. على فرشة الداء ينخر فى مقلتيها الخفوت هو الموت يا ولدى.. عتىٌّ كحزنى عليك هو الموت حظ أبيك الذى.. ما ارتضى غير مجد القصيدة ولا خان يوما عقيدة هو الموت يا ولدي وثيقة رفضى لتلك الوجوه البليدة! ولم تخل مسيرة «الشهاوى» كشاعر صادق يعبر عن ضمير الناس، من مضايقات أمنية، منها أنه دخل المعتقل خلال فترة حكم الرئيس الراحل أنور السادات لعدة أشهر، وقد حكى عن تفاصيل هذه الواقعة، أنه زار محافظة بورسعيد لحضور أمسية شعرية هناك، وكان أن ألقى قصيدته «قراءة فى بردية الأسرار»، وفيها عبارة «لا تحرموا أوطانكم من لحظة الغضب»، والتى وافقت هوى الجماهير التى كانت غاضبة على الرئيس الراحل وقتها، ثم عاد الشاعر إلى كفر الشيخ، ولكن لسوء حظه، كان «السادات» على موعد مع زيارة إلى بورسعيد، وفوجئ بالجماهير تقابله بغضب كبير، ففسر الأمن هذه الحالة بأنها نتاج الأمسية التى كانت فى الليلة الماضية، فصدر أمر باعتقاله، ولا سيما أن القصيدة كانت منشورة بالفعل فى مجلة «الثقافة العراقية»، وقد كان. الطريف أن الأمن ألقى القبض على «الشهاوى» من منزله بقرية «عين الحياة» فى كفر الشيخ، ووضع القيود فى يديه لترحيله إلى مسرح الجريمة الشعرية بورسعيد، لكن الشاعر الكبير بينما كان فى سيارة الترحيلات والحراس المدججون بالسلاح يشهرون بنادقهم فى وجهه، ألّف قصيدة فى مخه، ولم يدونها إلا بعد خروجه، وهى بعنوان «الأغنية والجلاد»، وأدرجها فى أعماله الكاملة. وفى الزنزانة ألف أيضا قصيدة من وحى الموقف، بعنوان «قراءة فى كتاب الأرض»، يهديها إلى عمه أحمد، ويقول فيها: على كفيه خارطة الزروع وأطلس العشب وها هو- كل صبح حافيا وأمامه جاموسة عجفاء يقابلنى.. فأقرأ فى ثنايا ثوبه المقطوع.. ملحمة الرضا المنقوش فى الأغوار! بعينيه كتاب الأرض مفتوحًا لذى عينين وفى الفودين وشم حمامتين. وفى قدميه أنهار وخلجان من الملح تطالع فى ملامح وجهه المملوء بالأسرار هوية شعبه الكادح!.. وتاريخا من الإصرار وبعد خروجه من السجن، دون «الشهاوى» القصيدتين، وأدرجهما فى ديوان «المسافر فى الطوفان» الذى اختار أن ينشره فى موقع الحدث، فى محافظة بورسعيد، عام 1985، وفيه أيضا قصيدة «قراءة» فى بردية الأسرار، ولكن محذوفا منها المقطع الثورى، فجاءت كالآتى: من أنت يا طيفًا يجيء إليّ عبر جوانح الظُّلَم متسلقًا أسوار صمتى.. يستلُّنى من غِمد صومعتي ويُركبنى بُراق الرحلة الكبرى؟ من أنت يا طمْث الحضور ونطفة التكوين؟ ها أنت تفتح فى دمائى قمقم التبيين ها أنت تطعمنى الإباء وكعكة الإصرار وتبثّنى بردية الأسرار ها أنت تطلق فى شراييني خيل الجموح عوالك اللّجُم من أنت يا طيفا يجيء إليّ عبر جوانح الظلم أوقفتنى فى أول الصف وملأتنى بالنور من بعد ما ضمَّختنى بالورد والكافور وأخذت من كَمّى لكيفي أوقفتنى فى العروة الوثقى وجعلتَ لى جبل المدى مَرْقَى أوقفتنى فى ساحة الإفضاء وأريتنى السر المخبأ أسريت بي حتى رأيت المنتهى والمنشأ وفتحت لى سِفْر الرموز ومعجم الدهشة وهمست فى أذنى: انطلق واصدع ونبّئ نبئ بما يُفضى إليك فأنت.. مَن ليراعه بشئوننا نُفضي واصعد جبال البوح حين تعود للأرض إن قيل: مسكين فإن المجد لا يُشرى أو قيل: مجنون فنحن بحال من نختاره أدرى طوبى لعبد ينشر الخيرا ويموت مصلوبًا على حبل من الرفض طوبى لمن لم تثنه (حمّالة الحطب) وإذا تصدى للغواية يغتلى لهبًا يصب النار فى كفَّيْ (أبى لهب) طوبى لمن لم يعرف الراحه طوبى لمن لم يلقِ - رغم الغبن - ألواحه طوبى لمن لم يحن هام الحرف والقلم من أنت يا طيفًا يجيء إليَّ.. عبر جوانح الظلم؟ أوقفتنى والليل والأحلام والجمرا ومنحتنا صك الولاية بعد ما.. أوصيتنا عشرا: لا تقربوا شجر الخيانة لا تخذلوا سيف الأمانة لا تركبوا للغىّ فُلكا لا تجعلوا للخوف سلطانا.. عليكم -يا أحبائي- وملكا لا تقطعوا الأيام نوما لا تذعنوا لمشيئة الأهواء يوما لا تكتموا رأيًا وأنتم ألسُن الأمَّه لا تحسبوا الإغضاء حكمه لا تحجموا رغبًا ولا رهبا لا تهربوا إمَّا سواكم آثر الهربا