بين حقائق الجيولوجيا التي باتت مجالا للتنظير من جانب غير المتخصصين، ومناورات السياسة التي لا تدخل في أمر إلا وتفسده، بات الحديث عن السدود المزمع إنشاؤها على منابع النيل وأشهرها سد الألفية أو “,”النهضة“,”، محفوفا بسوء الفهم والتضارب الشديد، في ظل غياب لغة يجب أن تكون هي الفيصل في هذا الشأن الاستراتيجي، خاصة إذا كانت تطرح بدائل آمنة وممكنة التنفيذ وقليلة التكلفة في آن واحد . وفيما يستمر التهويل في وسائل الإعلام من مخاطر السدود التي تعتزم أثيوبيا إنشاؤها على حصة مصر من المياه تارة، تبرز أصوات أخرى تؤكد على مميزات ومكاسب وخيرات تحملها تلك السدود لمصر في وقت لا يجرى الحديث فيه عن طريقة ملائمة لدرء تلك المخاطر أو كيفية الاستفادة من مشروعات الدولة الشقيقة ضمن منظومة تعاون متكاملة، تكرس لمبدأ حق إثيوبيا في الاستفادة من موقعها ومواردها الطبيعية، في نفس الوقت الذى تضمن فيه حقوق مصر التاريخية في مياه النيل . ولعل ما يزيد من ضبابية الموقف هو التغافل الرسمي المصري عما اعتبره بعض الخبراء كارثة بسبب ما تنتظره مصر من جفاف قادم من هضبة الحبشة بعد تحويل إثيوبيا لمجرى النيل الأزرق، وبدء الخطوات الفعلية لبناء سد النهضة، الذى أثبت تقرير لجنة ثلاثية مكونة من مصر، والسودان، وإثيوبيا، أن بناءه سيضر بدولة المصب، وسيعرض بحيرة السد العالي للجفاف في نهاية العام السادس من تشغيله . وتطرح تحذيرات اللجنة من بناء السدود ومخاطره على مصر وحصتها السنوية من المياه المهددة بفقدان 15 مليار متر مكعب، لتصل إلى 40 مليار متر مكعب سنويا، عدة تساؤلات تتطلب الإجابة الواضحة والصريحة عن حقيقة مخاطر هذه السدود من الناحية الجيولوجية والفنية، وما هي البدائل المتاحة للتغلب على تلك المخاطر، وطبيعة دور العامل السياسي في تلك الأزمة التي تتطلب أكبر قدر ممكن من التعاون بين دول المنبع والمصب . كما تطرح تلك التحذيرات تساؤلا مهما حول سبب إصرار أديس أبابا على عدم تعديل مواصفات السد وتقليل سعته التخزينية لضمان عدم إضراره بحصة مصر السنوية ومخزون بحيرة ناصر بعد تأكيد التقرير النهائي للجنة التي ضمت إلى جانب ممثلي الدول الأطراف خبراء دوليين التخوفات المصرية من السد، وإشارته بما لا يدع مجالا للشك إلى أن الدراسات المقدمة من الحكومة الإثيوبية لا ترقى لمستوى الدراسات المطلوبة لسد بهذا الحجم، والقدرات التخزينية الضخمة وكميات الطاقة التي سيتم توليدها منه . يتبع ويقول خبير المياه الدولي الدكتور أحمد الشناوي “,”إنه وفقا لتقرير اللجنة الثلاثية حول السد فإن تصميمات السد الإنشائية لا تأخذ في الاعتبار انتشار الفواصل والتشققات الكثيفة المتواجدة في الطبقة الصخرية أسفل السد، مما قد يهدد بانزلاق السد وانهياره، وما لذلك من آثار تدميرية خطيرة على كل من مصر والسودان “,”. وأوضح أن دراسة الحالة حول التشققات تعنى أن وجود ما يسمى “,”فالق أرضى“,” تم ضربه أكثر من مرة مما يعني استحالة استخدام تلك المنطقة في أي مشروع مائي، وللتدليل على ذلك فإن مصر تقع في فالق البحر المتوسط الذى فصل أفريقيا عن أوروبا، حيث كان نهر النيل يصل إلى ايطاليا من 300 مليون سنة، والدليل وجود حفريات في إيطاليا تدل على ذلك . ويشرح خبير المياه خطورة تواجد تلك الفوالق الأرضية، حيث يحد مصر والسودان أيضا ما يعرف ب“,”الفالق الأفريقي الأعظم“,” وهو البحر الأحمر، وأن جيولوجيا هذه الفوالق ينجم عنها فوالق في اليابسة عمودية عليها وهى متصلة بالفالق العظيم، فعندما نضع كتلة مائية فوق فالق تتسرب هذه المياه إلى البحار وهى الفوالق العظمى . ويدلل الدكتور الشناوي على ذلك بأن ذلك هو ما حدث تماما في بحيرة السد العالي حيث يهرب “,”فالق توشكي“,” 15 مليار متر مكعب في السنة، ولهذا فإن أي فالق أرضى يمنع وجود مشروع سد عليه، وهو ما يظهر من خلال وجود تشققات على سطح الأرض المخصصة لإقامة “,”سد الألفية“,” أو “,”النهضة“,” أنه أرضى متعدد . وأضاف أن المنطقة المخصصة لإقامة سدود أثيوبيا تعتبر ضمن حزام الزلازل، وهى منطقة براكين أيضا، حيث يلتف نهر النيل الأزرق حول بركان، ولهذا يجب أن يكون السد في حالة الإصرار على تنفيذه “,”ركاميا“,” وليس “,”خرسانيا“,” كما هو مقرر إنشاؤه . ويشرح خبير المياه الدولي الدكتور أحمد الشناوي مخاطر “,”سد النهضة“,” التي لا يجب التغافل عنها رغم ما يمكن أن يتيحه من مميزات اقتصادية مرحلية، فهذا السد سيقوم بتخزين كتلة مائية تقدر بمليارات الأطنان فوق الفالق الأرضي، مما سيترتب عليه بالتأكيد زلازل قوية جدا قد تدمره في أغلب الأحوال، وتسيل مياهه لتغرق السودان لكنها لن تصل إلى مصر، والغريب في الأمر هو موقف السودان المشجع لهذا السد، حيث أن المسئولين هناك لديهم طموح في الحصول على جزء من الكهرباء التي سوف يتيحها السد رغم خطورته المدمرة . وأوضح أن الشركة التي قامت بتصميم السد وهى (أمريكان بيرو فور لاند ريكلاميشن)، والشركة المنفذة وهى شركة إيطالية، كانوا قد قاموا منذ سنوات بتصميم سد مماثل وتنفيذه على نهر صغير جدا في نفس المنطقة يسمى “,”نهر أومو“,”، وبعد تنفيذ هذا السد ب15 يوما فقط إنهار هذا السد، وهو مؤشر واضح على مستقبل “,”سد النهضة “,”. وأشار الدكتور الشناوي إلى أن عدم توافر خبرات في مجال الموارد المائية وعلوم هيدرولوجيا المياه سواء في أثيوبيا أو من ساعدها، أدى إلى أن الدراسات الهيدرولوجية لسد النهضة جاءت دراسات مبدئية للغاية تتمثل في ميزان مائي مبسط لا يأخذ في الاعتبار خصائص وسياسة تشغيل السد، كما أن من قام بالدراسة التي سيتم على أساسها تنفيذ سد النهضة، لم يدرس تأثير السدود الثلاثة الأخرى المقترحة على النيل الأزرق على تصميم وتشغيل سد النهضة، ولا يأخذ في الاعتبار تأثير التغيرات المناخية على تدفقات نهر النيل الأزرق . وحول مخاطر تقليص حصة مصر من المياه في حالة إصرار إثيوبيا على تنفيذ المشروع، قال الدكتور الشناوي “,”إنه كان يؤيد تنفيذ هذا المشروع قبل صدور التقرير المستند إلى الحقائق الجيولوجية، لأن هذه السدود وخاصة “,”سد النهضة“,” كان يمكن أن يغنى مصر عن مساوئ السد العالي، فالفيضان يأتي 4 شهور في العام، وهذا السد يخزن مياه الفيضان لتكون متوافرة طوال العام، كما أننا نضطر إلى التخلص من مياه المفيض العالي في منطقة “,”مفيض توشكي“,”، وهو ما يهدر حوالى 15 مليار متر مكعب من المياه سنويا . أما المشروع البديل الذى يمكن أن يضع حدا لكارثة إنشاء “,”سد النهضة“,” فقد طرحه الخبير الدولي الدكتور أحمد الشناوي، ويشمل إنشاء ما يسمى “,”سدود تعويقية (weires) المتتابعة، وهى عبارة عن سدود ركامية بارتفاع من 2 إلى 3 أمتار على طول مسار النيل الأزرق، وهذه السدود ستولد الكهرباء من أمامها . وأكد أنه استنادا إلى دراسات على الأرض فإن الكهرباء التي سيتم توليدها من هذه السدود المقترحة، تعادل ما يمكن توليده من خلال “,”سد النهضة“,” بمقدار يزيد عن 10 مرات، لأنه يمكن استغلال إجمالي ارتفاع الجبل “,”جبال الحبشة“,” الذى يزيد عن 3 كيلومترات وهو مجرى المياه، مقابل حوالى 100 متر فقط هي ارتفاع سد النهضة . وأوضح الشناوي أن من أهم مميزات هذا المشروع لمصر أننا نستطيع القيام بهذه السدود الركامية برأس مال بسيط جدا، حيث لا نحتاج في إنشاء تلك السدود إلا لإمكانيات محدودة تتمثل في مجموعة من اللوادر لا تزيد عن 10 لوادر يقابلها حوالى 20 سيارة نقل، و10 هراسات ومجموعة من المهندسين والفنيين والعمال فقط . وقال “,”إنه سيتم انتقاء الأماكن التي لا يوجد بها فوالق أرضية على طول مسار النيل الأزرق، وعندما نتقدم بهذا المشروع بتكاليفه ماعدا مولدات الكهرباء والتي يمكن للمصانع الحربية في مصر أن تنتجها فسوف يرحب به جدا، وسوف تستفيد مصر من هذه السدود التعويقية لأنها ترسل الفيضان على مدار 12 شهرا، وبما أنه يوجد 9 أنهار على الهضبة الأثيوبية مماثلة للنيل الأزرق، فإنه يمكن تحويل جزء من هذه الأنهار إلى مصر مع توليد الطاقة الكهربائية بنفس الطريقة من هذه الأنهار “,”. ومن خلال هذه الحقائق العلمية التي يطرحها خبير المياه الدولي الدكتور أحمد الشناوي، بالإضافة إلى طرح حل بديل يتميز بالدقة العالية وقلة التكلفة، فإن على المفاوض المصري أن يؤكد لكل الأطراف خاصة الجانب الإثيوبي أن بناء “,”سد النهضة“,” بهذه المواصفات يعتبر خطا أحمر ولا يجب الموافقة عليه، لأن نتائجه الكارثية ستطال الجميع بما فيها إثيوبيا . ووفقا للقانون الدولي فإن نهر النيل هو نهر دولي لأنه يمر على عدة دول، ولهذا فإن نصيب هذه الدول سواء دول المنبع أو المصب من المياه هي حقوق مكتسبة، وما يفيض عن حاجاتها يتم التفاوض بشأنه، كما أن الحق المائي يعادل تماما الحق السياسي، وهو ما يعطى للدولة الحق في الدفاع عن حقها المائي بكل ما أوتيت من قوة إذا ما تم التجاوز على حقوقها، ومن هذا المنطلق فإن بناء أي سد على النيل لا يتم إلا بموافقة مصر، خاصة وأن وزارة الري المصرية هي المكان الذى نشأ به علم الموارد المائية وعلم تصميمات السدود . أ ش أ