خرج الرسول بتجارتها إلى الشام، لما عرفت عنه أمانته وفضله وكان معه غلامها «ميسرة»، وما إن عاد الركب إلى مكة حتى انطلق «ميسرة» يملأ سمعها بحديث مثير عن رحلته مع محمد، حيث نزلوا بالقرب من صومعة راهب فجلس محمد تحت شجرة، فقال الراهب لميسرة إنه لم يجلس تحت هذه الشجرة إلا نبي، إضافة إلى الربح الذي حققه النبى والذي لم يسبق أن حققته خديجة في تجارتها، وهكذا نشأت العاطفة داخل السيدة خديجة، ورغم أنه لا توجد في قريش من تنافسها شرفًا ونسبًا إلا أنها ترددت وتساءلت، هل يقبلها الرسول، وهى الكهلة ذات الأولاد، هل يستجيب لها «محمد» وقد انصرف عن عذارى مكة وزهرات بنى هاشم النضرات؟ فأفضت بسرها إلى صديقتها «نفيسة بنت أمية»، وهونت «نفيسة» الأمر عليها فهى ذات غنى وجمال ولا توجد من تفوقها نسبًا وشرفًا وكل قومها حريص على الزواج منها، ذهبت «نفيسة» إلى النبى ووجهته بلطف إلى السيدة خديجة وكانت به رغبة فيها، لكنه لم يكن يملك ما يتزوج به، فلما وجهته تقدم لخطبتها وتزوجها رسول الله. سارت الحياة المباركة، ولما رأت السيدة خديجة حب الرسول لمولاها زيد بن حارثة، وهبته إياه فزادت محبتها في قلب الرسول، كفل النبى بن عمه على بن أبى طالب، وأكمل الله عليهما السعادة فرزقهما بالقاسم وبه كان كنى الرسول، ثم عبد الله، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة. وفى الأثناء كانت الأنباء تتردد عن اقتراب ميعاد ظهور النبى الخاتم، وتتناقل في الجزيرة العربية، لكن أحدًا لم يكن يدرى يقينًا كيف ومتى يكون المبعوث المنتظر، وكان الرسول قد نزع إلى التأمل، فكان كثيرًا ما يذهب إلى غار حراء للتعبد، ولم تكن «خديجة» تضيق بهذه الخلوات التي تبعده عنها أحيانًا، بل كانت تحيطه بالرعاية والهدوء ما قام في البيت، فإذا انطلق إلى غار حراء ظلت عيناها عليه من بعيد، وربما أرسلت وراءه من يحرسه ويرعاه، وهكذا بدا كل شيء مهيئًا لاستقبال الرسالة المنتظرة، فلما جاء الوحي، وهرع إليها الرسول خائفًا ونفض لديها مخاوفه قال: «لقد خشيت على نفسي»، وضمته إلى صدرها، وقالت في ثقة ويقين: «الله يرعانا يا أبا القاسم أبشر يا بن العم وأثبت فوالذى نفس خديجة بيده إنى لأرجو أن تكون نبى هذه الأمة ولا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتقرى الضعيف وتعين على نوائب الحق». وانطلقت به إلى بن عمها «ورقة بن نوفل»، فقالت له خديجة: «يا بن عم اسمع من ابن أخيك»، فأخبره الرسول بما حدث فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل على موسى عليه السلام، يا ليتنى فيها جذعًا ليتنى أكون حيًا إذ يخرجك قومك، فقال الرسول: أو مخرجى هم؟، قال: نعم لو يأتى رجل بمثل ما جئت به إلا عودى وإن يدركنى يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا. للسيدة خديجة أكبر الفضل في الصبر على المحن ومساندة الرسول ومواساته بالمال والكلمة الطيبة التي تخفف عنه فقاست معه سنوات الحصار، وأقامت ثلاث سنوات في شعب أبى طالب، وزاد بلاؤها أبو لهب عندما أمر بنيه أن يطلقا ابنتيها. كانت السيدة خديجة مثالًا للكرم والبر، وكانت تبر من يحبهم رسول الله، فقد أصابت الناس سنة جدب بعد زواجها من رسول الله، وجاءتها حليمة السعدية زائرة، فعادت من عنده ومعها من مال السيدة خديجة بعير يحمل الماء وأربعون رأسًا من الغنم ووصل بر السيدة خديجة إلى أبعد من ذلك حيث كانت «ثوبية» أول مرضعة للرسول تدخل على النبى الكريم، بعد أن تزوج فكانت تكرمها وتصلها وفاءً وكرمًا لزوجها. أحب رسول الله السيدة خديجة حبًا شديدًا، بلغ أن غارت منها السيدة عائشة، وهى حظوة عند رسول الله، فقد قالت: كان رسول الله لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها فذكرها يومًا من الأيام، فأدركتنى الغيرة، فقلت هل كانت إلا عجوزًا فقد أبدلك الله خيرًا منها فغضب، حتى اهتز مقدم شعره من الغضب، ثم قال: «لا والله ما أبدلنى الله خيرًا منها آمنت بى إذ كفر الناس وصدقتنى وكذبنى الناس وواستنى في مالها إذ حرمنى الناس ورزقنى الله منها أولادًا إذ حرمنى أولاد النساء» فقالت عائشة بينها وبين نفسها: «لا أذكرها بسيئة أبدًا».