بعيدا عن الأعمال الكتابية والتكنولوجية التي تعتمد على الذهن، هناك أياد لا يفارقها التعب، ولا تكف عن العمل، يلاحقها الكد أينما ذهبت، ويكسوها العرق، لتنعكس عليها أشعة الشمس الحارقة.. تلك الأيادى لا تعرف غير الشقاء. في قرانا الأصيلة ينظر الناس إلى تلك الأيدى بنوع من الإجلال والتقدير.. فهى يد يحبها الله ورسوله، لا تعرف النعومة، ولا ترضى بأى بديل عن ملمسها الخشن.. باختصار هي اليد التي أضفى عليها الكد والعمل شرفا ومهابة. أطلق اسم عمال التراحيل على الأشخاص الذين لهم رئيس مسئول عن ترحليهم من محافظة إلى أخرى للعمل، لكنه كان نظاما متبعا في العصور القديمة، أما في الوقت الحالى أصبح عامل التراحيل هو المسئول عن الاتفاق على العمل دون وسيط أو رئيس وأصبح ذا شأن، والكثير منهم حاصل على مستوى عال من التعليم. يبدأ عمل عمال التراحيل مع بداية موسم القصب، تحديدا في شهر يناير حتى شهر مايو، فكان العديد منهم يأتى من مدينة إسنا ونجع حمادى قبل بداية موسم كسر القصب بشهرين للأتفاق على العمل ويقدر أجرهم بالطن منه، ويقسم العمل بزراعة القصب على شكل مجموعات كل مجموعة مكونة من نحو 14 عاملا دون الارتباط بمدة لإنهاء العمل، فعند انتهاء المجموعة من عملها يحصل العامل على ما تبقى من أجر ويعود إلى بلاده وتقدر متوسط اليومية نحو 120 جنيها تقريبا، لذلك تعد مهنة مربحة جدا، وبجانب ذلك تكاليف المعيشة طوال الموسم من طعام وشراب على نفقة أصحاب الأراضى. ويعد عمال التراحيل مزارعين في الأصل، لكن لضيق المساحات في بلادهم توجهوا إلى العمل في صحراء البلاد المجاورة، والبحث عن رزقهم في أي محافظة أخرى لتوفير دخل تعتمد عليه الأسرة، خاصة أن أغلب أعمالهم تكون مرتبطة بموسم زراعة القصب. فواعلية.. أحلام على الرصيف مع اقتراب أذان الفجر وقرب انتهاء سكون الليل، يخرج من منزله حاملًا «معداته البسيطة» مثل الشاكوش والمسامير وغيرها من المعدات اللازمة لمولد البناء، مرتديا ملابس رثة، يسرع خارجا من منزله إلى مكان العمل «على الرصيف»، انتظارا لقدوم أي سيارة تحمله إلى مكان عمل جديد. على الرصيف يجلس بجوار ذويه، الجميع هنا حامل لأحلامه وهى الحصول على أجر يتراوح ما بين 30 و50 جنيها، لا يعرفون بعضهما البعض، لكن يجلسون معا ويجمعهم حلم واحد مع كل إشراقة شمس. الجميع هنا يمسك ب«سيجارته» وواضعا يديه على وجهه، مغطيا العديد من هموم الحياة التي تواجهه، تاركا أسرته العائلية ومتواجدا وسط أسرته الجديدة التي تعرف عليها خلال تواجده في الشارع. هنا سوق الرجال أو ما يسمى «سوق الفواعلية»، أحلام الرصيف «الجميع يحلم» بعمل من أجل أن يكسب قوت يومه، يجلسون على أحد الأرصفة ينتظرون تحقيق أحلامهم على يد أشخاص، يأتون للبحث عن عمال أجرية يعملون معهم في بعض الأعمال الشاقة. «البوابة» كانت هنا بجانب الأسرة الصغيرة التي تجلس بجانب بعضها البعض طوال اليوم، فمنهم الحاصل على الكليات العلمية المختلفة، والمؤهلات المتوسطة، ومنهم من لم يحصل على أي مؤهل دراسى. تبدأ التفرقة بينهما وحدوث العديد من المشكلات عند قدوم أي شخص، باحثا عن شخص منهما، وتبدأ حالات الشد والجذب بينهما، فلقد جمعهما «الرصيف والسيجارة»، لكن فرقهما حلم «الرصيف» الذين أتوا من أجله إلى هنا في البحث على رصيف الأحلام. سوق الفواعلية عبدالمطلب وأحمد ومحمد وإبراهيم وتوفيق ونورالدين ومحمود، والعشرات من الشخصيات الأخرى، هنا سوق «الفواعلية» بوسط مركز نجع حمادى شمال محافظة قنا. جميعهم أتوا للسوق للعمل «فواعلية»، بعدما فقدوا الأمل في أن توفر لهم الحكومة عملا وحياةً كريمة. يروى عبدالمطلب فهيم، البالغ من العمر 36 عاما، أنه جاء للعمل هنا في سوق الفواعلية لكسب قوت يومه، وذلك بعدما فشلت كل محاولاته في إيجاد عمل يساعده في الإنفاق على أسرته قائلا: «ماكانش قدامى حل غير كده.. أنا جيت هنا للسوق من سنة، وكنت باشتغل عامل أجرى قبل كده مع مقاولين، لكن اليومية كانت قليلة في مقابل الشغل الصعب». ويؤكد أحمد عبدالحميد، 42 عاما، أنه يأتى مترجلًا سيرًا على قدميه، إلى مكان سوق الفواعلية الكائن بالقرب من شارع الجنينة بمركز نجع حمادى، حيث لا يقدر على إنفاق المال بالمواصلات حتى يصل إلى السوق، ويبدأ في الانتظار حتى يأتى شخص ليختاره ويطلب منه العمل ويذهب معه ثم يحصل على المال ويعود إلى منزله. ويشير إبراهيم عاطف، 45 عاما، إلى أنه بلغ من العمر عامه الخامس والأربعين، ولكن يصر على استكمال العمل على الرغم من المخاطر التي يواجهها في عمله، موضحا أنه تعرض من قبل إلى كسر في ساقه أثناء عمله في هدم إحدى الحوائط في منزل سكنى لكنه لم يحصل على أي تعويض ولا يوجد له أي تأمين صحى أو غيره. ونوه إلى أن أكبر مقابل مادى «يومية» تقاضاه كان 50 جنيهًا، واليوميات تتراوح في سوق الفواعلية من 30 إلى 50 جنيها، لكنها رغم أنها تعد دخلًا ضئيلًا، لكنها تعوض أي شىء آخر للصرف والإنفاق على أسرهم. كما أكد نور الدين محمد، 47 عاما، أنه ظل عشرات السنوات يبحث عن عمل، لكنه لم يجد ولم تسمع الحكومة إلى شكواه ومطالبه، فقرر أن يعمل في سوق الفواعلية قائلًا «بنحلم نكون زى الدول التانية.. حكومتنا في الطناش، ومحدش بيسأل في الشعب». أردف قائلًا «كل مرة يقولون انزلوا انتخبوا وهنحقق مطالبكم سواء في الرئاسة أو البرلمان أو غيره أو حتى الثورة ومحدش بيعبرنا». عماد أحمد عبدالمعين، الحاصل على بكالوريوس التربية من جامعة جنوب الوادى دفعة عام 99، حصل على شهادته الجامعية، وظل يبحث عن عمل بشهادته، لكن لم يجد من يستمع إلى مطالبه من قبل الحكومة، ولم يجد نفسه إلا أنه «عامل فواعلى». يقول عبدالمعين إنه حصل على مؤهله الدراسى، وظل يبحث طوال عمره عن عمل لكى ينفق على أسرته، لكن لم تسمعه الحكومة، ولم يجد نفسه سوى عامل فواعلى، قائلًا «البلد دى مفيهاش غير الواسطة والمحسوبية وبسبب ده كله.. نسيت كل اللى اتعلمته». وأضاف أنه يخرج في ظل البرد الشديد في فجر كل يوم حتى يذهب مسرعا إلى سوق الفواعلية، ليبحث عن عمل يستطيع من خلاله أن يشترى المأكولات لأسرته المكونة من 7 أفراد. صناع الأثاث.. يهيئون الراحة رغم التعب في محافظة دمياط، يوجد عشرات الآلاف من العمال، خاصة العمالة المنتظمة، الذين يمتهنون صناعة الأثاث والنجارة وغيرها دون وجود كيان قانونى يدافع عنهم أو يحميهم، خصوصا أن القانون لا يشملهم. ويقول سامى عسيلى، أحد العاملين في مهنة صناعة الأثاث بقرية الشعراء بدمياط: أنا لا أعبر عن حالة خاصة، لكن عن آلاف العاملين في المحافظة، حيث إن عملنا من الصباح الباكر وحتى أوقات متأخرة من الليل وأوقات نواصل الليل بالنهار ونستمر في العمل أياما مستمرة دون راحة، في محاولة لإخراج إنتاج أكبر، خصوصا أننا نخرج إنتاج بجودة عالية وحرفية كبيرة. وطالب عسيلى بأن يكون عيدالعمال ذلك السنة مختلفا، وهو أن يخرج علينا مجلس النواب بقانون للعمالة غير المنتظمة يقنن أوضاعهم ويوفر لهم مظلة للتأمين الصحى والمعاشات ويوفر الحماية اللازمة لهم. ويقول رفعت جمعة، صانع أثاث، إن غالبية العمال في محافظة دمياط يعانون من بتر الأطراف، نظرا للعمل على النشار والماكينات الخطرة، خاصة أن مستشفيات دمياط لا تتوافر فيها إمكانيات للعلاج، مما يتسبب في اللجوء إلى عمليات لبتر الأطراف المصابة. وناشد جمعة ضرورة الإنجاز وإنشاء مستشفى للأطراف يعمل على إنقاذ الصناع المصابين، وينجح في تركيب أطراف صناعية، ليستطيع هؤلاء العمال استئناف أعمالهم، موضحا أن عمال دمياط يعملون وأصابعهم مبتورة دون توقف، فنجد الكثيرين يعملون وأيديهم دون أصابع ولا يتوقفون بسبب لقمة العيش. ويقول أحمد شبكة، إن عمال صناعة الأثاث يعيشون حالة مادية منحدرة بسبب حالة الركود من ناحية وخطر الماكينات من ناحية أخرى والإغراق السلعى من قبل دولتى تركيا والصين، في محاولة للقضاء على العامل والحرفى والقضاء على الصناعات اليدوية. وطالب شبكة بضرورة أن تعى الدولة صناع الأثاث، فهم ثروة قومية، وقد تحولت للأسف العديد من الورش إلى مقاه بسبب ركود الحالة.