مع مضي أكثر من 34 عاما على ذكرى تحرير سيناء لم يجد القاريء أو المتلقي أي عمل ادبي بين دفتي كتاب أو عمل درامي على الشاشة الكبيرة أو الصغيرة على مستوى رفيع حول هذه الذكرى الغالية المرتبطة بقيمة الأرض المقدسة عند المصريين والأمر ذاته يكاد ينطبق على حرب السادس من أكتوبر عام 1973 التي سنحتفل هذا العام بالذكرى ال 43 لها كحدث عظيم وخالد في وجدان المصريين. وهذه الظاهرة غريبة حقا لأن وقائع وقضايا الحرب والسلام تشكل دراما إنسانية ومصدر الهام لا ينضب للمبدعين حول العالم بل وقد تكون سببا في ذيوع شهرتهم وهذا ما حدث مثلا هذا العام في الرواية التي فازت مؤخرا بجائزة بوليتزر الأمريكية الشهيرة في فئة الأدب وكان صاحبها يوصف "ككاتب مغمور" قبيل الإعلان عن فوز روايته بهذه الجائزة. فلجنة التحكيم في جوائز بوليتزر الأمريكية الشهيرة وهي من أهم جوائز الصحافة والأدب في العالم كما أنها من أهم الأحداث الثقافية على مستوى الكرة الأرضية عمدت هذا العام لأسلوب المفاجأة السارة عندما اختارت رواية لمؤلف لم يسمع عنه أحد من قبل لكن الرواية جيدة للغاية والأهم أنها العمل الأول لفيت ثانه نجوين الذي يؤكد اسمه من أول وهلة أنه فيتنامي الأصل والأكثر أهمية في هذا السياق أن الرواية تتناول الحرب الفيتنامية والفترة التالية لنهايتها في منتصف سبعينيات القرن العشرين. ورواية "المتعاطف" لفيت ثانه نجوين نالت استحسان بعض القراء والنقاد الذين قدر لهم أن يصادفوها وبالطبع بعد فوزها بجائزة بوليتزر ستقفز مبيعاتها مرات ومرات وتلك هي القيمة الحقيقية لهذه الجائزة..فالرواية الفائزة بجائزة بوليتزر تقفز بسرعة لصدارة قوائم المبيعات. ومن ثم في جائزة تترقبها دوما دوائر صناعة النشر وتمهد الطريق أمام الفائز ليصبح نجما عالميا وهو ما يتوقع حدوثه مع مؤلف رواية "المتعاطف" وهو ما حدث مع روائيين أمريكيين سبق أن فازوا بهذه الجائزة التي تجعل صاحبها موضع اهتمام من جانب وسائل الإعلام بقدر ما تحقق لأعماله رواجا كبيرا داخل الولاياتالمتحدة والدول الناطقة بالانجليزية كما توصف جائزة البوليتزر في الأدب بأنها من السبل التي قد تصل بصاحبها يوما ما إلى الفوز بجائزة نوبل. وبطل رواية "المتعاطف" هو "جاسوس شيوعي نصف فيتنامي ونصف فرنسي" ويعيش حياة مزدوجة في لوس انجلوس أما مؤلف الرواية ذاته فهو ينتمي لعائلة من اللاجئين الفيتناميين في الولاياتالمتحدة وشب عن الطوق في ولاية كاليفورنيا وكان معجبا دوما بروايات وقصص الجاسوسية. واذا كانت رواية "المتعاطف"تتناول الحرب الفيتنامية كما تستعرض وقائع ما بعد انتهاء هذه الحرب التي تورطت فيها الولاياتالمتحدة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي ففي العام الماضي أيضا ذهبت جائزة بوليتزر الأمريكية المرموقة لرواية تاريخية عن الحرب العالمية الثانية كتبها انثوني دوير بعنوان: "في الضوء المبهر لا نستطيع أن نرى". وهي رواية ادرجت حينئذ ضمن قوائم أعلى مبيعات الكتب في الولاياتالمتحدة ودول أخرى لتعيد للأذهان أهمية الرواية التاريخية وأدب الحرب في إبداعات الشعوب..وتلك الرواية تميط اللثام عن تفاصيل المشهد الأوروبي أثناء الحرب العالمية الثانية فيما يتتبع المؤلف فتاة فرنسية عمياء تنضم للمقاومة وعلاقتها بفتى ألماني يتيم في زمن الاحتلال النازي لفرنسا. وتمثل الحرب دوما زادا متجددا للإبداع الروائي في أروع صوره كما هو الحال مع سفيتلانا اليكسفيتش التي فازت في العام الماضي بجائزة نوبل في الآداب فيما كانت معالجتها الابداعية للحرب العالمية الثانية ضمن أهم حيثيات منحها "ام الجوائز الأدبية العالمية". وكتابات سفيتلانا اليكسفيتش تصنع من الحرب والمعاناة والألم الإنساني رحيقا يشف عن إمكانية تحويل الأحزان لبوتقة من مشاعر التعاطف الإنساني بين البشر في هذه الدنيا ثم أنها كاتبة الدهشة بامتياز عبر قدرتها الفذة "في التقاط ورؤية غير العادي في السرد اليومي للبشر وأوجه الحياة التي تبدو عادية،غير أنها تحوي ما هو غير متناه من الحقائق الإنسانية"..فعالمها متشابك بشخوص في محن الحرب والقتل والاغتيال والانتحار والإقصاء والحرمان، وعلى من يترجمها أن يضارعها في القدرة على تتبع تلك الأصوات المتداخلة في متاهة الجراح والتي تصنع في نهاية المطاف من جماع تلك الأصوات صوتا متسقا ولحنا متناغما !. تنصت سفيتلانا اليكسفيتش للبشر الذين عاشوا وعاينوا بعض أخطر المآسي السياسية وتراجيديات العالم في القرن العشرين مثل الحرب العالمية الثانية أو انهيار الاتحاد السوفييتي السابق ودخوله في ذمة التاريخ ليستيقظ سكان هذه القوة العظمى ذات صباح فيجدون انفسهم في بلاد غير التي عرفوها على مدى سنوات طوال. من هنا اعتبرت الأكاديمية السويدية المانحة لجوائز نوبل أن ابنة روسيا البيضاء سفيتلانا اليكسفيتش التي تجاوز عمرها حينئذ ال67 عاما جديرة بالجائزة لكتاباتها التي تشكل صرحا ابداعيا يجسد المعاناة في عصرنا فهي حسب إعلان رئيسة الأكاديمية السويدية سارا دانيوس "كاتبة استثنائية" وصاحبة "كتابات متعددة الأصوات تمثل معلما للمعاناة والشجاعة في زمننا". وحسب سارا دانيوس رئيسة الأكاديمية السويدية فان سفيتلانا اليكسفيتش تهدي العالم صرحا عاطفيا من المشاعر بتحويل الأحداث التاريخية في كتبها عن وقائع مثل الحروب لسبيل تستكشف من خلاله الفرد. ونجحت سفيتلانا اليكسفيتش في تطوير التقنيات التي تعلمتها من الكاتب البيلاروسي اليس اداموفيتش لتبتكر "نوعا جديدا من الكتابة الأدبية" استحق إشادة وثناء الأكاديمية السويدية التي منحتها جائزة نوبل في الآداب فيما نوهت سارا دانيوس في هذا السياق بكتابها الأول "وجه لا أنثوي للحرب" الذي ارتكز على مئات المقابلات مع سيدات شاركن في الحرب العالمية الثانية. وهذا هو الإبداع في أحد معانيه حيث استخدام منظور جديد لرؤية الجديد عبر القديم كما فعلت الفائزة بجائزة موبل للآداب في العام الفائت وهي تنظر للحرب العالمية الثانية بمنظور جديد وتقدم للإنسانية ما كان في حكم المجهول بالنسبة لها عن هذه الحرب وتروي سفيتلانا اليكسفيتش قصص مئات ومئات السيدات اللاتي كن على الخط الأمامي للجبهة في الحرب العالمية الثانية. وبذلك كشفت هذه المبدعة البيلاروسية تاريخا مجهولا إلى حد كبير لنحو مليون امرأة سوفييتية شاركن في الحرب العالمية الثانية فيما حقق كتابها هذا نجاحا مدويا وحظى بإقبال منقطع النظير في الاتحاد السوفييتي السابق وبيع منه أكثر من مليوني نسخة. وها هي حرب البوسنة والهرسك في العقد الأخير من القرن العشرين تتحول لمصدر الهام للروائيين وتتوالى الروايات والقصص عن هذه الحرب وأحدثها رواية "الهدوء ينساب في نهر الأونا" للشاعر والكاتب البوسني فاروق سيهيتش والتي وصفتها صحيفة الجارديان بأنها "تشكل إسهاما كبيرا في أدب الحرب". وهذه الرواية التي تحمل ذكريات أليمة وأطيافا من السيرة الذاتية لهذا الشاعر والكاتب البوسني ترجمها للانجليزية ويل فيرث وفازت بجائزة الاتحاد الأوروبي للأدب تأتي بعد نحو 20 عاما من الحرب الدامية في البوسنة والهرسك والتي تشكل واحدة من أقسي آلام الإنسانية في القرن العشرين. وصاحب الرواية شارك في الحرب ضمن وحدة للمتطوعين دفاعا عن البوسنة والهرسك في مواجهة العدوان الصربي وهو يوظف لغة الشاعر في روايته وينتصر للحياة رغم ثقل محمولات تجربة الحرب الأليمة في الذاكرة ولا يتردد في إعادة بناء الخيال انتصارا لحياة بريئة من الكراهية وروح لا تعرف التلوث. ومن أجل فهم ما حدث وتطهير الروح مما حدث في تلك الحرب ها هو فاروق سيليتش يزور بيت جده الراحل المطل على نهر الأونا "حيث كل شيء له معنى" فيما كل فصل في روايته عنوانا مشحونا بمعان وتلاوين من كوابيس الحرب وأحلام السلام. والويلات المقترنة بالحروب تثير دوما خيال المبدعين كما هو الحال في رواية جديدة تحظى الآن باهتمام كبير في الصحافة الثقافية الغربية وهي رواية " المختارون " لستيف سيم ساندبيرج التي تتحدث عن برنامج نازي إبان الحرب العالمية الثانية للتعجيل بموت الأطفال الذين يعانون من أمراض خطيرة أو إعاقات بدنية. وهذا الكاتب نجح في روايته التي تدور أحداثها في النمسا إبان خضوعها للإرادة الهتلرية أثناء الحرب العالمية الثانية في تجسيد ألوان من القسوة والوحشية وشناعة الفظاعات التي عانت منها الإنسانية في سنوات مازالت محفورة في ذاكرة الألم ليعيد للأذهان وظيفة من وظائف الأدب وهي التحذير من تكرار جرائم تاريخية. وبالطبع لا حاجة للإسهاب في ضرب مزيد من الأمثلة بشأن أعمال أدبية ودرامية حول الحروب حققت خلودا وشهرة في العالم ولا حاجة أيضا للتأكيد على أن بعض هذه الأعمال الأدبية والدرامية سواء على الشاشة الكبيرة أو الصغيرة تتناول حروبا قريبة زمنيا مثل الحرب الأمريكية في أفغانستان والعراق خلال الألفية الثالثة أما نحن "فوضعنا مختلف" حقا لأنه يكاد يأتي على النقيض من هذا المشهد العالمي !. لا عمل أدبي أو درامي حتى الآن عن حرب أكتوبر يرقى لمستوى هذه الحرب في الواقع وان سألت أهل الذكر من الأدباء والفنانين المصريين ستجد الإجابة النمطية والتي يكذبها المشهد الأدبي والفني في دول أخرى !. ستجد الإجابة الغالبة عند الكثير من الأدباء والفنانين المصريين: إن الأحداث الكبرى تتطلب مرور وقت طويل قبل التعبير عنها أدبيا وفنيا غير أن المشكلة أن هذا الوقت الطويل غير محدد بسقف !. ولعل خطورة الاتكاء الكامل على هذه المقولة تتجلى في مقارنة بين حجم وتوقيتات ومستويات الأعمال الأدبية والسينمائية والتليفزيونية الغربية التي تناولت الحرب العالمية الثانية حتى الحرب الأمريكية في أفغانستان والعراق وحجم وتوقيتات ومستويات الأعمال الأدبية والسينمائية والتليفزيونية المصرية إن وجدت حول حدث مثل حرب السادس من أكتوبر أو تحرير سيناء بالكامل في الخامس والعشرين من أبريل عام 1982. ويبدو أن مقولة انتظار الوقت الطويل حتى تظهر أعمال ناضجة يحمل في ثناياه حقيقة الهروب من الالتزام وتبعات الإبداع التي كان يجسدها أديب مصر النوبلي العظيم نجيب محفوظ فيما تذهب النفوس حسرات مع التراجع المريع في الأعمال الدرامية سواء على الشاشة الكبيرة أو الصغيرة. وينبغي في هذا السياق الأخذ في الاعتبار بالعلاقة الوثيقة بين الأدب والسينما والتليفزيون فالروايات العظيمة تشكل معينا لا ينضب للسينما أو التليفزيون مثل "جاتسبي العظيم" حيث يتجلى عنفوان الرواية وحضورها بالتلاقح الابداعي بين الكلمة المكتوبة والأطياف الساحرة على الشاشة الكبيرة. إن الذكرى ال34 لتحرير سيناء التي حلت هذا العام تثبت عدم دقة مقولة أن الإبداع بحاجة لوقت وكأن 34عاما لم تكن كافية لإنتاج هذا الفيلم المفقود تماما كما هو الحال بالنسبة لحرب السادس من أكتوبر 1973 بينما قدمت السينما الأمريكيةوالغربية على وجه العموم عشرات الأفلام الرائعة ابداعيا وتجاريا عن الحرب العالمية الثانية وحروب تالية فيما باتت الحرب الأمريكية في أفغانستان والعراق مصدر الهام للرواية والسينما معا في الولاياتالمتحدة!. نعم نحن نعاني من أزمة إبداع في أدب ودراما الحرب ويبدو أننا بحاجة ماسة "لإعادة تقليب التربة الابداعية المصرية" والبحث الدؤوب والمخلص عن كل المواهب الواعدة ابداعيا حتى يتغير هذا المشهد المثير للأسى في ظل استمرار هذا الغياب الطويل لأي أعمال أدبية أو درامية رفيعة المستوى وتليق بأحداث خالدة في الوجدان المصري.