كان المشهد مخيفا، سيدة خمسينية بدينة تستعد لعبور الطريق حاملة على كتفها طفل تسنده بيدها اليمنى ويدها الأخرى مشغولة بكيس ضخم، تتلفت ناحية السيارات فى نفس اللحظة التى تبدأ فيها قدماها تتسحب نحو الرصيف بخطوات كسوة بطيئة فتقف لها السيارات احتراما لحالتها الصعبة على النفس، بعد ثوان كانت قدماها كادت تصل أخيرا للرصيف حتى حدثت المفاجأة، سيارة طائشة قادمة بكل سرعة ناحيتها، اطمئنت السيدة للحظات أن السيارة ستقف لها كما وقفت غيرها فأصرت أن تكمل خطواتها بنفس الإيقاع الممل بكل ثقه ولكن يبدو أن السائق لم يكترث بتهديدها وعاند هو الآخر وأكمل السير بنفس سرعته، كل تفاصيل المشهد تؤهله ليكون حادثا مروعا مثاليا كالذى نقرأ عنه بالصحف وفى برنامج الأستاذة ريهام سعيد، ولكن ما حدث كان المفاجأة، فى ثوان كانت تلك السيدة المترهله تقفز قفزتين فى الهواء بخفة ورشاقة لاعبة جمباز محترفة وتصل للبر الآخر برشاقة وليونة فى مشهد لم يصدقه أحد وأظن لم تصدقه تلك السيدة نفسها. كانت حياة السيدة طبيعية، مستقرة وهادئة، حتى شعرت بالخطر ففعلت أمورا على غير طبيعتها وهكذا نحن، نحن نماذج مصغرة من تلك السيدة وإن لم نمارس نفس التصرف ورد الفعل. أنا وأنت يا عزيزى وهبنا حياتنا لمشاعر الخوف ولم نخط خطوة إلا تحت الشعور بالخطر، فلم نذاكر لأننا أحببنا المواد الدراسية وشعرنا بالمتعة ونحن نفصص معلوماتها، احنا ذاكرنا عشان منسقطش فلم تزيدنا كل تلك السنوات إلا الغباء، ولم نفكر فى أن نلتحق بكلية نحب الدراسة فيها وحب مجالها الذى نريده بقدر خوفنا من مستقبلنا بعد الكلية التى سندخلها ومصيرنا ليكون كل منا مكان الآخر، تحملنا كل سخافات عائلتنا ونفذنا نصائحهم السخيفة مع أننا أبدا لم نؤمن بها ولكن خوفا من زعلهم وخطر جملة «ما انت مش هتعرف قيمتنا غير لما نموت» لمجرد أنهم استسهلوا أن يعرفونا قيمتهم وهم عايشين! فى وظيفتك، انت محاط طوال الوقت بالخطر، خطر أن يستغنوا عنك، أن يخصموا منك، خطر أن يعاقبوك لمجرد انك قررت أن تخرج من الصندوق وحاولت أن تبدع أو أن تبتكر شيئا جديدا أو تفكر بطريقة غريبة فتتراجع وتعمل ما يطلب منك بالحرف، رغم إيمانك أن الإبداع أصلا هو لحظة اضطراب عقلى ولكنك مجبر أن تكون عاقلا وعاقلا جدا! معظم ما اشتريناه ليس له لزمة، فقط اشتريناه لأن صاحب المحل هددنا بأنه لفترة محدودة أو حتى نفاد الكمية فأسرعنا بشرائه دون أن نفكر فى جدوى استفادتنا أو حتى مدة تلك الفترة المحدودة أو حتى حجم الكمية! دخلنا بعلاقات دون أن نفكر هل نحب هذا الشخص الحب الكافى لنبقى معا طوال عمرنا.. أم لأننا مهدون بأنه شخص لطيف وهيتخطف لو سبناه.. فخسارة؟ لم نعط فرصة لنفسنا حتى أن نفكر نسأل هل بالضرورة إذا كان مناسبا لغيرنا فهل هو مناسب لنا؟ أن شعورك بالخطر من فقدان الشخص وأن غيرك يريده يجعلك تعرض عليه الزواج فورا لمجرد الخوف من ألا تجد مثل هذا الشخص مع أنك ممكن أن تجد أفضل منه مثلا يعني! نفكر فى قرار الزواج أكثر من تفكيرنا فى من سنتزوجه نفسه لتفادى خطر أن يفوتك قطر الزواج ونتورط بقية العمر فى اختيار غير صائب، وننجب سريعا ونصبح مسئولين عن أطفال ونحن أصلا غير مؤهلين أن نكون مسئولين عن أنفسنا ولكن لمجرد أن هناك خطر عدم احتمالية الإنجاب بعد ذلك يحوم حولنا، ثم علينا أن نعيش بقية عمرنا نستخسر فينا أن ننبسط، أن نستريح، أن نلتقط أنفاسنا، لا نحاول أن نفهم الحياة أو نحبها بل نفحتها ونفحت نفسنا لنسرق منها أى فلوس لضمان مستقبل اطفالنا لحمايتهم من خطر أى ظروف مستقبلية مجهولة. لتكتشف فى نهاية الرحلة، أننا قضينا عمرنا كله نحاول أن نحارب إحساسنا بالخطر، وأن الخطر الحقيقى الوحيد الذى يستحق أن تواجهه وتفكر فيه هى حياتك التى ضاعت وانتهت وأنت تفكر فى الخطر، ستكتشف أن الخطر الحقيقى هى صحتك وشبابك وقوتك وجرأتك ومشاعرك واندفاعك ومغامرتك ومخاطرتك الذين قتلتهم وأنت تحارب إحساسا وهميا صنعته فقط برأسك. صحيح نسيت أخبرك.. السيدة المسنة لو كانت أصرت بتحد أكبر على خطواتها الثقيلة كان السائق وقف غصب عنه.