عجزت جماعة “,”الإخوان المسلمين“,” عن توضيح نفسها، لدرجة أن البعض يعتبر عُمرها 85 علامة استفهام.. غامضة ومضطربة. قبل “,”الحكم“,” كانت الجماعة موضع سؤال عن.. التمويل، الشرعية، الأهداف، التنظيم الدولي، الدولة الدينية المفترضة، دورها في ثورة يناير.. أستاذية العالم إلخ، وبعد وصولها إلى الحكم زادت الأسئلة وبقيت عالقة . وفى غيبة إجابات منها جازف كثيرون بأجوبة متعددة معللين فشلها في الإدارة باحتكارها للسلطة، واحتكار السلطة باحتكار المأساة.. أن الجماعة لديها شعور عميق بأن “,”السلطة“,” جائزة عما لاقت من عنت، ومن ثم تصرفت، مع كل صوت معارض، على أنه طامع في “,”الكعكة “,”. وحين سمحت لأشخاص بعينهم بأن يتمسَحوا بالكأس أو “,”الجائزة“,” أو حتى أن يلتقطوا صورة تذكارية معها، كانت تعرف أن طموحهم لن يتعدى إطار الصورة، وإلا طردوا من رحمة “,”القصر“,” مرجومين ومتهمين، كأن القصر خُلق خصيصاً لتعويض الإخوان وحدهم، مع أن كثيرين، غيرهم، دخلوا نفس السجون وبطشت بهم نفس اليد. أما الرئيس المعزول ( محمد مرسى ) فيقر خصومه بأنه دخل “,”القصر“,” من “,”الصندوق“,”، لكنهم يقرون، أيضاً، أن كثيرين، ممن أعطوه أصواتهم، ندموا على ذلك، والندم يبطل الصوت. الرجل لم يف بوعوده فتحولت أحلام الناس فيه، إلى أحلام ضده ! والحاصل أن أكثر من 30 مليون مصري خرجوا عليه وأسقطوه بغضبة واحدة. رغم ذلك ما زالت الخاصية الثابتة، في تفكير الجماعة، هي إنكار الواقع، والتشهير ب “,” 30 يونيو“,” عند كل فتحة فم. إن هذه الجماعة، لخلل في تكوين أفرادها، تعتقد أنها تمتلك الحقيقة المطلقة، وهى، في دعم خطابها ونفى الآخر، تتذرع بالسماء، بوهم أن كل من ينطق باسم السماء ينتسب إليها، ومن ثم يكون “,”مقياس الأشياء جميعاً“,”. إنها لغز وعن هذا اللغز صدرت، مؤخراً، عن الهيئة العامة للكتاب الطبعة الثانية من “,”الإخوان المسلمون.. قراءة في الملفات السرية “,” للباحث عبدالرحيم على الذى يتعقب الحبل السُرى للجماعة منذ نشأتها في عام 1928 حتى الثورة على حكمها وإسقاطها في 30 يونيو 2013. يقع الكتاب في 500 صفحة، من القطع الكبير، حفلت 115 صفحة منها بوثائق استطاع المؤلف أن يستنطقها ويستنبط منها ما يدمغ الجماعة ومؤسسها بالانتهازية “,”الساقطة“,” في كل العصور، ولذلك قسم “,” على “,” كتابه إلى 3 أبواب حملت عناوين: “,”الإخوان والانتهازية السياسية“,” و“,” الملفات السرية“,” و“,” دولة الإخوان“,”. وراء كل واحد من هذه الأبواب مستنقع غاصت فيه الجماعة، باطمئنان، على اعتبار أن أحداً، في المستقبل، لن يؤرخ للوحل. Ø الله مع الملك ومنذ الفصل الأول يمسك المؤلف بجرثومة البراجماتية السياسية التي مارستها “,” الجماعة “,” وفق خطاب، يصفه بالفضفاض القادر “,”على صناعة التقارب والتصادم معاً “,”. الشاهد أن السياسة التي تبنتها الجماعة هي أن كل الأطراف.. الأنظمة، الحكومات، المؤيدين، الخصوم، الداخل والخارج أو حتى الأعضاء، هدف ل: النفاق، الخداع، التقية أو التمويه، الابتزاز، المهادنة، التحالف، الصدام ومن ثم زخات البنادق. قد تتماهى مفردتان من هذه المفردات وقد تغيب واحدة وتحل مكانها أخرى، لكن الثابت أن الجماعة ظلت تتلون وفق المصلحة، وفى السلة التي تحملها بضاعة لها سلطانها على الناس هي الدين، تضرب باسمه صكوك الإدانة وصكوك الغفران. بدأت الجماعة، كما يعرض الكتاب، بنفاق القصر الملكي، حيث غذت في الملك فؤاد فكرة راودته واستولت عليه، بعد إلغاء كمال أتاتورك للخلافة، وهى أن يكون خليفة للمسلمين. هنا وضع البنا عينه على القصر، وراح يؤيده بظهير ديني هو الجماعة وأتباعها، ولما مات الملك فؤاد عاش الملك فاروق، الذى انتقلت إليه العين الحارسة. يقول حسن البنا، بمجلة “,” الإخوان المسلمون“,” عدد 9/ 2 / 1937، كما يورد عبدالرحيم على، “,” إن 300 مليون مسلم في العالم تهفو أرواحهم إلى الملك الفاضل الذى يبايعهم على أن يكون حامياً للمصحف فيبايعونه على أن يموتوا بين يديه جنوداً للمصحف. وأكبر الظن أن الله قد اختار لهذه الهداية العامة الفاروق فعلى بركة الله يا جلالة الملك ومن ورائك أخلص جنودك“,” يقصد الإخوان ! وحين اختاف النحاس باشا مع القصر وخرجت جماهير الوفد تهتف “,” الشعب مع النحاس“,” سيّر البنا مظاهرات مضادة تهتف “,”الله مع الملك“,” خالعة عليه لقب “,”أمير المؤمنين“,”، هكذا يتحدث الشيخ باسم الله، كأنه يحمل منه توكيلاً، يعرف بمقتضاه من تقف المعية الإلهية معه ومن تقف ضده. وسوف تتسع حيلة الشيخ، وجرأته، ليستخدم المتناقضات كلها في في خطاب واحد أرسله للملك فاروق. يقول البنا مستعطفاً ومهدداً وقادراً على الامتنان والامتثال والدس والابتزاز “,” يا صاحب الجلالة : اسمح أن أجرأ في هذا المقام الكريم فأقول إن هذه المجموعة من الإخوان المسلمين في وادى النيل هي أطهر مجموعة على ظهر الأرض نقاء سريرة وحسن سيرة وإخلاصاً لله وللوطن وللجالس على العرش في كل كفاحهم في سبيل دعوة لا تخرج أبداً عما رسم الإسلام الحنيف قيد شعرة وأنهم بحكم إيمانهم ومناهجهم ونظامهم وانتشار دعوتهم بكل مكان في الداخل والخارج أفضل قوة يعتمد عليها من يريد بهذا الوطن الخير ويتمنى له التقدم والنهوض.. وإن تحطيم دعوتهم والقضاء عليهم...ليس من المصلحة في شىء، بل هو قضاء على نهضة هذا الوطن الحقيقية وقتل للبقية الباقية من روح الإخلاص والجد والاستقامة والطهر فيه. على أن نتائج هذا الموقف في مثل هذه الظروف غير مضمونة ولا معروفة. ولا أدرى لحساب من يقوم دولة رئيس الحكومة ( يقصد النقراشي) بهذه المهمة ويحمل هذه التبعة الضخمة أمام الله وأمام الناس وفى التاريخ الذى لا ينسى ولا يرحم Ø يا صاحب الجلالة إن الإخوان المسلمين باسم شعب وادى النيل كله يلوذون بعرشكم وهو خير معاذ ويعوذون بعطفكم وهو أفضل معاذ ملتمسين أن تتفضلوا جلالتكم بتوجيه الحكومة إلى نهج الصواب أو بإعفائها من أعباء الحكم ليقوم بها من هو أقدر على حملها ولجلالتكم الرأي الأعلى... المخلص حسن البنا“,”. كان البنا قد وجه هذا الخطاب لفاروق يشكو فيه من سياسة النقراشي ضد الإخوان ويطلب من الملك التدخل لتخفيف قبضة الحكومة عن جماعته، ولم ينس بالطبع أن يشكك في قدرات النقراشي ويطعن، من طرف خفى، في وطنيته ونواياه، موعزاً بإقالته، لكن شكاية “,”المخلص“,” لم تجد صدى عند “,” أمير المؤمنين“,”، بل أحالها إلى النقراشي نفسه، وعلم الشيخ بذلك، فلم يجد حرجاً في طلب لقاء الرجل الذى كان بالأمس يجّرحه، مزجياً المديح بين يدى طلبه، غير أن النقراشي، بعد أن انتظر الشيخ لقاءه 4 ساعات، رفض الطلب، فقابله وكيل وزارة الداخلية عبدالرحمن عمار وكتب تقريراً عن اللقاء جاء في ختامه على لسان الشيخ أنه “,” إذا قدر أن تمضى الحكومة في ما اعتزمته من حل الجماعة فإنه يؤكد أنه ورجاله سوف لا تبدر منهم بادرة تعكر صفو الأمن إذا لا يقدم على مثل هذا العمل إلا مجنون، كما أن الحكومة لو تعاونت معه لضمن للبلاد أمناً شاملاً...ثم جعل يبكى بكاء شديداً ( أي بحرقة ) ويقول إنه سيعود إلى مقره في انتظار تعليمات دولة رئيس الوزراء داعياً له بالخير والتوفيق“,” هكذا!! تلك هي طريقة الأب المؤسس في معالجة السياسة.. اللعب على كل الأطراف.. المشكو إليه والمشكو في حقه، والانتقال بين النقائض.. الخنوع إذا لم تكن موازين القوى في صالحه، الدس حين لا تنفع المواجهة، التوسل اتقاء للخطر، ثم الانقضاض على الخصم إذا حانت منه لحظة ضعف. وهو ما اتبعه البنا مع الجميع.. حزب الوفد، مصر الفتاة، اليسار، السفارة الأمريكية، والسفارة الإنجليزية.. إلخ. كما يبين عبدالرحيم على من واقع ملفات حرصت الجماعة على أن تظل سرية، غير أنها لم تفلح. Ø انتهازية الشيخ تتناسل أما حين تلتقط الجماعة أنفاسها وتستشعر في بدنها بوادر القوة واحتياج الآخر إليها فتلجأ إلى المساومة وإذا لم تفلح نقلت الخلاف إلى الشارع، مستثمرة حمولة الخطاب الديني النفسية والعاطفية. هذا ما حدث مع قادة ثورة يوليو، ففي لقاء بين عبدالناصر والهضيبي، يورد الكتاب وثيقته كاملة، يطلب المرشد الثاني للإخوان، نظير تأييد الجماعة للثورة في لحظات الغبش وعدم التأكد من موضع أقدامها “,” أن يعرض عليه أي تصرف للثورة قبل إقراره، فرد عليه البكباشي جمال قائلاً إن هذه الثورة قامت بدون وصاية أحد عليها وهى لن تقبل بحال أن توضع تحت وصاية أحد“,”. وانتهت العلاقة بين الثورة وبين الجماعة إلى ما هو معروف في أدبيات الإخوان بالمحنة الثانية. المهم أن جرثومة الانتهازية تناسلت، بين أفراد الجماعة، من الأب المؤسس الذى كان يحكّم المصلحة الشخصية، لا كتاب الله، فيما يشجر بين الإخوان، وواقعة عبدالحكيم عابدين وفصل أحمد السكرى، والخطابات المتبادلة بينه وبين حسن البنا، تكشف إلى أي مدى كان الشيخ يغض الطرف عن انتهاك الحرمات، حين يتصل الأمر به وبأنسبائه وأقاربه. ü يعرض عبدالرحيم على نصوص الخطابات كاملة وصوراً زنكوغرافية لها، حتى لا يكون لبس أو إنكار. “,” “,” تعود الواقعة إلى نهاية عام 1945، حيث “,” نقل بعض الإخوان، ومنهم أربعة من أعضاء مكتب الإرشاد، إلى البنا أن سكرتيره العام وزوج شقيقته عبدالحكيم عابدين يستغل سلطته في انتهاك حرمة البيوت وأعراض الإخوان“,”، وإزاء هذه الاتهامات، المدعومة بقرائن، راح البنا يناور، كي لا يجد نفسه في موقف يضطر فيه إلى فصل زوج أخته وإقصائه عن حظيرة الجماعة، كما تقضى الأعراف والأخلاق والديانات. خاصة أن 8 أعضاء في مكتب الإرشاد صوتوا لصالح فصله، مقابل صوت واحد أبقى على “,” راسبوتين الجماعة“,” كما سماه أحد الشاكين! موقف البنا غير مستغرب على من يرى “,” في ضياع الحق مصلحة الدعوة“,”، في الوقت الذى يتشدق فيه بأن الجماعة تدعو للحق وبالحق تدعو. “,” “,” البنا، باختصار، طالب سلطة، وهو يطلبها بأية وسيلة، ويتنكر، في سبيلها، لأية قيمة. خذ مثلاً ابتزازه للوفد بعد رفضه دفع 50ألف جنيه مقابل تأييد الشيخ وجماعته، لقد عقد الشيخ، بعد هذا الرفض، صفقة مع السراي، عدو الوفد، يتنازل بمقتضاها أحمد السكرى عن ترشيحه في الانتخابات البرلمانية ضد كامل الشناوي مرشح السراي، من اجل الحصول على بعض المكاسب، هكذا كتب البنا للسكرى في خطاب موثق، وربما لذلك استقال السكرى، فقد كان “,” من المطالبين بالتنسيق مع الوفد، وكان حسن البنا يضع شرطاً مستحيلاً وهو تبنى الوفد لمبادئ الجماعة“,”. ومن ناحية أخرى، يواصل عبدالرحيم على، لا يمكن إهمال العامل الشخصي في الانشقاق بين الصديقين، “,” فقد كان السكرى يشعر بأنه أكبر من أن يكون نائباً لرئيس الجماعة ويعتقد أن البديل هو تقسيم السلطة بينه وبين المرشد، بحيث يتولى السكرى الزعامة السياسية وينهض البنا بالجانب الدعوى“,”. ولأن البنا لا يحتمل الخلاف في الرأي ولا يحتمل أن ينازعه أحد في الزعامة ردّ “,” بإحالة الخلاف إلى الهيئة التأسيسية، لمساءلة السكرى وإصدار قرار بفصله“,”. المسكوت عنه في قرار البنا هو غيرة الشيخ من رفيق الدرب وخشيته من منافسته، ولذلك “,” سعى جاهداً للتحكم في إيقاع الخلاف، حتى لا يؤثر على مكانة الجماعة وشعبيتها“,”، بينما “,” لجأ السكرى والدكتور إبراهيم (..حسن وكيل الجماعة وعضو مكتب الإرشاد ) إلى صحيفتي “,”صوت الأمة“,” الوفدية و“,”الجماهير“,” اليسارية، ونشرا مقالات عنيفة ضد البنا، وصلت إلى درجة اتهامه الصريح بالعمالة لإسماعيل صدقي والنقراشي، كما اتهماه بالغدر والتلويح بأنه يتقاضى أموالاً من الإنجليز“,” ! بدأت الانتهازية إذن من هناك وأفرخت في الأبناء حتى وصلت، على يد الأحفاد، إلى “,” فيرمونت“,”. وقد رأيت أن أقصر عرضي على هذه النقطة، أولاً لأنها الخلفية التي تتحرك عليها فصول الكتاب التسعة “,” الإخوان والواقع السياسي المصري، الإخوان والانشقاقات، ملف العنف، الإخوان والديموقراطية الداخلية، ملف التنظيم الدولي، الإخوان بين الديني والسياسي، العلاقة مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، الإطار الحركي، سيد قطب.. الجسر“,”. على أن السبب الأهم أن الانتهازية كفيلة بتقويض أي دعوة يفترض أنها تقوم على “,”الأخلاق“,”، حتى إذا سلمنا، مع نهرو، بأن هناك نوعين من الانتهازية.. المشروعة في مقابل “,”الساقطة“,”. لقد تعاملت الجماعة مع السقوط، منذ بداية الفكرة، حين رأت أنها الجهة الموكلة بحراسة الإيمان، لكن من حسن الحظ أن شعار “,” الإسلام هو الحل“,”، لم يوفر لها الغطاء الأمثل لاستغلال الناس باسم الدين. مسكينة جماعة الإخوان.