ها هو عيد الأم قد حل، ترى من منهم سيأتينى أولًا؟ وما الهدايا التى سيحملونها معهم؟ لا.. لا تهمنى هداياهم بقدر ما تعنينى مشاعرهم الصادقة، تكفينى منهم كلمة عرفان، أو نظرة امتنان، أو حتى حضن صامت، قبلة على جبينى تنسينى هموم الدنيا، وتعوضنى عن تعب السنين. ليس هناك أقسى على أم سهرت وتعبت وربت من أن تنتظر من أولادها وزوجها سماع كلمة طيبة تسعد قلبها، وتعيد إلى وجهها نضارته، فلا تجدها، ضنوا عليها جميعًا بكلمة شكر واحدة، كم هى ظالمة تلك الحياة المليئة بالجحود والنكران. لم تتوقع «سكينة»، المرأة السبعينية، أنها ستذهب فى طريق القسوة الى آخر نقطة فيه، وأنها ستقضى يوم عيد الأم حائرة بين مكاتب محكمة زنانيرى للأسرة، حتى تستطيع الحصول على نفقة من أولادها أو من زوجها.. أهكذا ينتهى بها الحال؟.. أهذا هو رد الجميل؟! لم تستطع تلك السيدة النحيلة أن تتمالك مشاعرها وتمنع دموعها من التساقط، وهى تميل على حاجب المحكمة لتسأله عن كيفية إقامة دعوى ضد زوجها أو أولادها، بعد أن هجروها جميعًا، فالزوج تركها ليتزوج من فتاة تصغره بثلاثين ربيعًا وأودعها الأبناء إحدى «دور المسنين»، واكتفوا بذلك ولم يعد أى منهم يسأل عنها. نحيله الجسد، قصيرة القامة، تملكت التجاعيد من تفاصيل وجهها، انتظرت فى مقر المحكمة وهى ترتدى جلبابًا أسود، ولكنه ليس أشد سوادًا من لون الحياة فى عيونها، ينحسر حجابها الأسود الكبير الذى يغطى معظم جسدها عن بعض من شعرها الناعم الذى كسته الأيام بلون أبيض قاس. تتوقف عن الكلام وكأن حجرًا قد سد فمها، كيف تحكى تلك التفاصيل ومن أى نقطة تبدأ، حين قرر أبناؤها إيداعها دار المسنين لأن زوجاتهم لا يحتملن العيش معها، أم حين أخلفوا وعودهم معها بالسؤال بين وقت وآخر، أم حين سألت عنهم بعد أن انقطعت عنها أخبارهم والمصاريف التى كانوا يرسلونها لها، أم حين جاءتها الإجابة الصادمة بأنهم غيروا مقار إقامتهم وأرقام هواتفهم.. هل هناك ما هو أقسى من ذلك؟ لم تستطع «سكينة» التحدث كثيرًا، لضعف صحتها ولبكائها المستمر، ولأن التفاصيل أصعب من أن ينطق بها اللسان، ولكن إحدى المرافقات لها من الدار، قالت ل«البوابة» إنها جاءت منذ عام أو أكثر، بصحبة ابنها وابنتها اللذين قالا إن والدهما تزوج بأخرى، وإنهما وإخوتهما الثلاثة الآخرين متزوجون، ووجود والدتهم معهم فى منازلهم سبب لهم مشاكل كثيرة، وأخبرانا بأن حياتهم مهددة بالخراب. تمضى المرافقة قائلة: طردها الزوج وفشلت جميع محاولات عودتهما لحياتهما السابقة، خاصة أنها أصيبت فى السنوات الأخيرة بعدد من الأزمات القلبية، التى أثرت على صحتها، وحركتها الطبيعية، فأصبحت عبئًا على زوجها، وقال لنا الابن إنهم سيقومون بزيارتها كل فترة، وإرسال كل ما يلزمها من أموال لمتابعة احتياجاتها وصحتها، ولكن لم يمر أكثر من 6 أشهر، وانقطعت جميع أخبارهم ولم نعرف عنهم أى شيء، حتى بياناتهم لدينا منهم من غيرها، ومنهم من أعطاها مغلوطة، وبالتالى أصبح جميع قنوات الاتصال بأهلها شبه مستحيل. التقطت «سكينة» طرف الحديث قائلة: «آخر أمل عندى أن أعود لأولادى، أو يسألوا عنى، ويفتكرونى ويطمئنوا على صحتى، ويرجعوا كمان عشان يصرفوا عليا، كفاية إن جوزى رمانى فى الشارع بمرضى، بعد عشرة دامت حوالى 30 عامًا أيضًا، ومن أجل فتاة أصغر من ابنته!! وبعد عناء فى الوصول لأولادى، ورفض زوجى الإنفاق علىّ، أحد معارفى اقترح علىّ إقامة دعوى قضائية ضد زوجى أو أولادى أطالبهم فيها بالإنفاق على، خاصة أننى سيدة مسنة ومريضة».