في العام الأخير من حياة الرئيس الأمريكى، أي رئيس داخل البيت الأبيض، وبدوافع الشفافية يمكن أن تستمع إلى كشف حساب معقول للمدة الرئاسة المنقضية، وهى في الإجمال سنة محمودة للديمقراطية في مراحلها المتقدمة، توجب على رئيس الإدارة بعد أن يفرغ من مهام «صلوات» المنصب المفروضة، أن يؤدى ركعتين تمثلان طقس الاعتراف من خلال كشف حساب عما قام به في فترة الرئاسة، وقد اختار باراك أوباما أن يظهر هذا الكشف أو الجزء المتعلق بسياساته الخارجية، وهى التي حظيت بأكبر قدر من الجدل، اختار لها أن تخرج للنور من خلال تحقيق مطول تضمن العديد من الحوارات التي أجراها مع كاتب مجلة «ذى أتلانتك» الأسبوعية، أجاد «جيفرى جولدبرج» تلك الصياغة المطولة بما تضمنته من حوارات دارت بينه وبين الرئيس الأمريكى، فضلا عن العديد ممن هم قادرون على إكمال الصورة، فيما خرجت بعنوان دال للغاية يمكن من خلاله التيقن بأننا إزاء درويش كبير سكن المكتب البيضاوى لثمانى سنوات، قضى الوقت فيها يعد خلطة الصلوات السرية والتقية السياسية، ويعبر النهر في سنوات العالم المضطربة، وفق قناعات المذهب الغامض الذي سمى ب «عقيدة أوباما». وقد اخترنا للنشر بعضًا من مقاطع هذا التحقيق والحوار الطويل من النص الأصلى، لما نراه بالغ الأهمية في إلقاء أضواء كاشفة على المشهد العالمى، ونخص بالطبع منطقتنا وقضايانا بالجزء الأكبر. يقول المحرر: تحدثت في المرة الأولى مع أوباما حول السياسة الخارجية عندما كان عضوا في مجلس الشيوخ الأمريكى عام 2006م، في ذلك الوقت كنت على دراية بنص خطاب كان قد ألقاه قبل أربع سنوات، في تظاهرة في شيكاغو ضد الحرب، كان خطابا غير عادى لمسيرة مناهضة الحرب، تحدث أوباما الذي كان آنذاك عضو مجلس الشيوخ عن ولاية إلينوى، ضد موضوع محدد، وكان في ذلك الوقت لا يزال نظريًا، وهو موضوع الحرب. وقال «أنا غير مضلل عن حقيقة صدام حسين.. إنه رجل وحشى.. رجل لا يرحم.. لكننى أعرف أيضا أن صدام لا يشكل تهديدا وشيكا ومباشرا للولايات المتحدة أو لجيرانه.. أعرف أن غزو العراق من دون منطق واضح، وبدون دعم دولى قوى سيؤدى إلى تأجيج النيران في منطقة الشرق الأوسط، وتشجيعا للأسوأ وليس الأفضل، وهو تعزيز لذراع التجنيد في تنظيم القاعدة». جعلنى هذا الخطاب متشوقا لمعرفة صاحبه، أردت أن أعرف كيف لسيناتور في ولاية إلينوى، وأستاذ القانون بدوام جزئى الذي قضى أيامه متنقلا بين شيكاغو وسبرينجفيلد، له مثلًا هذه البصيرة لفهم المستنقع القادم أكثر من مفكرى السياسة الخارجية الأكثر خبرة في حزبه، بمن في ذلك شخصيات مثل هيلارى كلينتون وجو بايدن وجون كيرى، ناهيك بطبيعة الحال، عن معظم الجمهوريين وكثير من محللى السياسة الخارجية. عندما اشتبهت الإدارة أن نظام الأسد كان يفكر في استخدام الأسلحة الكيميائية، أعلن أوباما: «لقد كنا واضحين جدا لنظام الأسد.. وهذا خط أحمر بالنسبة لنا أن نبدأ برؤية مجموعة كاملة من الأسلحة الكيميائية يجرى نقلها أو استخدامها، وذلك سيغير حساباتى وبالتالى سأغير معادلتى». وعلى الرغم من هذا التهديد، بدا للعديد من النقاد أن أوباما انفصل ببرود عن معاناة السوريين الأبرياء، وفى وقت متأخر من صيف عام 2011 دعا إلى رحيل الأسد من أجل الشعب السورى، حيث قال أوباما: «حان الوقت لأن يتنحى الرئيس الأسد»، ولكن أوباما لم يبدأ بشيء ليعجل بنهاية الأسد، كما رفض مطالب بالعمل منفردا، لأنه يفترض استنادا إلى تحليل من الاستخبارات الأمريكية، أن الأسد سيسقط دون مساعدته، وأضاف «أنه يعتقد أن الأسد سيذهب كما ذهب مبارك»، وقال لى ذلك أيضا دينيس روس مستشار أوباما السابق لشئون الشرق الأوسط، في إشارة إلى خروج الرئيس المصرى حسنى مبارك السريع في أوائل عام 2011، تلك اللحظة التي مثلت ذروة الربيع العربى، ولكن مع تشبث الأسد بالسلطة زادت مقاومة أوباما للتدخل المباشر. أوباما قلب طلب التدخل في سوريا رأسًا على عقب، فقد قال لى ذات مرة: «عندما يكون لديك جيش محترف، ويكون مسلحًا بشكل جيد ومدعومًا من دولتين كبيرتين إيران وروسيا لديهما مصالح كبيرة في هذا، وهم يقاتلون ضد مزارع ونجار ومهندس الذين بدءوا كمحتجين وفجأة وجدوا أنفسهم الآن في خضم حرب أهلية «وتوقف هنيهة» إن فكرة أننا يمكن أن نغير بوسيلة نظيفة المعادلة العسكرية على أرض الواقع ليست فكرة حقيقية»، وهى الرسالة التي أبرقها أوباما في خطاباته، وكان في جميع المقابلات واضحا: أنه لن ينتهى مثل الرئيس بوش الثانى، الرئيس الذي أصبح إفراطه مأساويًا في الشرق الأوسط، والذي ملأ ردهات مستشفى «والتر ريد» العسكري بالجنود الجرحى، الرئيس الذي لم يتمكن من إنقاذ سمعته، حتى عندما عمل على تعديل سياساته في فترة ولايته الثانية، إن أوباما يقول سرًا إن المهمة الأولى للرئيس الأمريكى في الساحة الدولية بعد بوش هي «لا تقم بأشياء غبية». ازداد اضطراب الرئيس في الأيام التي تلت ضرب «الغوطة» بالغاز، قال لى أوباما في وقت لاحق إنه وجد نفسه يتراجع عن فكرة هجوم لم يصرح به القانون الدولى أو يوافق عليه الكونجرس، ويبدو أن الشعب الأمريكى غير متحمس للتدخل في سوريا، وكذلك فعل أحد الزعماء الذين يحترمهم أوباما، أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية، حيث قالت له إن بلادها لن تشارك في حملة عسكرية في سوريا، وفى تطور مذهل رفض البرلمان البريطانى السماح لديفيد كاميرون بالهجوم على سوريا، إضافة إلى ذلك، ساهمت زيارة مفاجئة قام بها «جيمس كلابر مدير الاستخبارات الوطنية» في تردد أوباما في ضرب سوريا، عندما أخبره بأنه رغم أن المعلومات الاستخباراتية حول استخدام غاز السارين في سوريا تعتبر ضخمة، إلا أنها لا تشكل «ضربة قاضية» وقد اختار هذا المصطلح بعناية، حيث إن كلابر رئيس مجمع الاستخبارات من المصابين بصدمات نفسية بسبب فشلهم في الفترة التي سبقت حرب العراق، لن يفرط في الوعود على طريقة مدير وكالة الاستخبارات المركزية جورج تينيت، الذي ضمن لجورج دبليو بوش «الضربة القاضية» في العراق. في الوقت الذي كان فيه البنتاجون وأجهزة الأمن القومى في البيت الأبيض يستعدان للحرب «قال لى جون كيرى إنه يتوقع ضربة اليوم بعد خطابه»، كان الرئيس قد توصل إلى اعتقاد بأنه كان يسير نحو فخ يقوده إليه حلفاؤه وأعداؤه، إضافة إلى التوقعات التقليدية التي يفترض أن يقوم بها الرئيس الأمريكى، لم يفهم العديد من مستشاريه شكوكه العميقة، وكان مجلس وزرائه وحلفائه بالتأكيد على علم بها، ولكن شكوكه تتزايد يوميا وفى وقت متأخر بعد ظهر يوم الجمعة، قرر أوباما أنه ببساطة لم يكن مستعدا للضربة العسكرية، طلب من ماكدونو رئيس أركانه، أن يتمشى معه في الحديقة الجنوبية للبيت الأبيض، لم يختر أوباما ماكدونو عشوائيا: فهو مساعد أوباما الأكثر نفورا إزاء أي تدخل عسكري أمريكى، كما أنه شخص يعتقد بحسب تعبير أصدقائه بوجود الفخاخ، ومن جهة كان أوباما وهو الرجل الواثق بنفسه، يبحث عن التصديق ومحاولة ابتكار طرق جديدة لشرح تغيير رأيه لمساعديه وللجمهور، ومكث هو وماكدونو في الخارج لمدة ساعة، وقال أوباما إنه يشعر بالقلق من أن يضع الأسد المدنيين كدروع بشرية حول أهداف واضحة، وأشار أيضا إلى وجود ثغرة أساسية في الضربة العسكرية المقترحة: لن تطلق الصواريخ الأمريكية على مستودعات الأسلحة الكيميائية، خوفًا من تصاعد أعمدة السموم في الهواء، ربما تستهدف الضربة الوحدات العسكرية التي سلمت هذه الأسلحة، ولكن ليس الأسلحة ذاتها. يشترك أوباما أيضا مع ماكدونو في استياء طويل الأمد: فقد كان متعبا من مراقبة واشنطن، وهى تنجرف نحو حرب بدون تفكير في الدول المسلمة، قبل أربع سنوات اعتقد الرئيس أن البنتاجون «ورطه» في زيادة القوات الأمريكية إلى أفغانستان، والآن ظهرت الأزمة السورية، وبدأ في الشعور بالتورط مرة أخرى، وعندما رجع الرجلان إلى المكتب البيضاوى، أخبر الرئيس مساعديه للأمن القومى أنه يعتزم التراجع، لن يكون هناك هجوم في اليوم التالى، أراد أن يحيل المسألة إلى الكونجرس للتصويت عليها، وصدم مساعديه في الغرفة، قالت سوزان رايس التي أصبحت مستشارة الأمن القومى لأوباما، إن الضرر بمصداقية أمريكا سيكون خطيرا ودائما، فيما وجد آخرون صعوبة في فهم كيف يتراجع الرئيس قبل يوم من الضربة المقررة، ومع ذلك كان أوباما هادئا تماما، وقال لى بن رودس «إذا كنت معه، كنت علمت متى يكون مترددا حول شيء ما، خاصة عندما يكون قرار 5149 مضيفًا: لكنه كان مطمئنا تماما». منذ وقت ليس ببعيد، طلبت من أوباما أن يصف كيف كان يفكر في ذلك اليوم، فسرد هموم العملية التي شغلت باله، فقال: «كان لدينا مفتشو الأممالمتحدة على الأرض يستكملون عملهم، ولا يمكن أن نخاطر بالهجوم وهم هناك، وكان العامل الرئيسى الثانى، هو فشل كاميرون في الحصول على موافقة من البرلمان، أما العامل الثالث وهو الأهم، كانت تقديراتنا أنه في حين قد نلحق بعض الضرر بقوات الأسد، فلن نتمكن من خلال هجوم صاروخى من القضاء على الأسلحة الكيميائية نفسها، وسيكون ما أواجهه هو احتمال نجاة الأسد من الضربة، ويدعى أنه تحدى الولاياتالمتحدة بنجاح، وأن الولاياتالمتحدة تصرفت بشكل غير قانونى في غياب تفويض من الأممالمتحدة، وهو ما سيعزز قوته بدلًا من إضعافها، أما العامل الرابع فقال: كان ذا أهمية فلسفية أعمق، وهو ما جعلنى أطيل التفكير لبعض الوقت، وقال وصلت إلى مكتبى باعتقاد قوى أن نطاق السلطة التنفيذية في قضايا الأمن القومى واسع جدا، ولكن له حدود». يدرك أوباما أن قراره بعدم قصف سوريا أغضب حلفاء أمريكا، وقال لى رئيس وزراء فرنسا مانويل فالس، إن حكومته كانت قلقة بالفعل من عواقب التقاعس عن التدخل في سوريا من البداية، «لقد خلقنا وحشا بعدم التدخل في وقت مبكر»، وأضاف «كنا على يقين بأن الإدارة الأمريكية ستوافق إلا أن التراجع كانت مفاجأة كبيرة، وإذا قصفنا كما كان مقررا، أعتقد أن الأمور كانت ستختلف اليوم»، وقال ولى عهد أبوظبى «محمد بن زايد آل نهيان» لزائريه الأمريكيين إن «الولاياتالمتحدة يقودها رئيس غير جدير بالثقة»، كذلك شعر ملك الأردن «عبدالله الثانى» باستياء بسبب ما اعتبره رغبة أوباما غير المنطقية للابتعاد عن حلفائه التقليديين من العرب السنة وينشئ تحالفا جديدا مع إيران الداعم الشيعى للأسد، وقال لأحد المقربين منه: «أؤمن بقوة أمريكا أكثر مما يفعل أوباما»، والسعوديون أيضا غضبوا من العدول عن الضربة، حينها عاد الجبير وقال للمسئولين في الرياض«إيران هي القوة الكبرى الجديدة في الشرق الأوسط، والولاياتالمتحدة هي القوة القديمة». وعن الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، تحدث الرئيس الأمريكي بأنه في البداية كان يراه على أنه «قائد مسلم معتدل يمكن أن يكون جسرا بين الشرق والغرب» إنما خيب أردوغان آمال أوباما، فأضحى اليوم يصفه بالفاشل والاستبدادى، واتهم أوباما الرئيس التركى برغبته بعدم إعادة الاستقرار إلى سوريا، وقد ظهر ذلك جليًا من خلال رفضه لاستخدام جيشه الضخم في المساهمة بوقف النزيف السورى، وعودة الهدوء إلى سوريا، وبأسلوب ساخر قال أوباما: «كل ما أحتاجه في الشرق الأوسط هو عدد قليل من الاستبداديين الأذكياء». وقال لى أوباما صراحة «أخفقنا في ليبيا»، عن الحملة التي أطاحت بالزعيم الليبى الراحل معمر القذافى في 2011، وهو اعتراف ضمنى بتأزم الحالة الليبية وسقوط الدولة، وتابع أوباما: إن ليبيا غرقت في الفوضى، مضيفا: عندما أتساءل لماذا ساءت الأمور، وحين أرجع بالزمن وأسأل نفسى ما الخلل الذي حدث، تكون هناك مساحة للنقد، لأننى كانت لدى ثقة أكبر فيما كان سيفعله الأوروبيون فيما بعد، نظرا إلى قرب ليبيا اعتقدت أنهم سيكونون أكثر انخراطا في متابعة الوضع بعد التدخل، وانتقد أوباما رئيس الوزراء البريطانى ديفيد كاميرون قائلا إنه كان «شارد الذهن» في أمور أخرى، في حين اعتبر أن الرئيس الفرنسى السابق نيكولا ساركوزى كان يبحث عن الظهور عند تنفيذ التدخل العسكري الذي أطاح بنظام القذافى، كاشفا أن ساركوزى «كان يرغب في أن يعلن بصخب عن نجاحاته في الحملة الجوية، في حين كان الواقع أننا نحن من دمر الدفاعات الجوية لجيش القذافى». أورد «جيفرى جولدبرج» في وسط الحوار فقرة بالغة الدلالة حيث كتب، لقد ذكرت لأوباما من قبل مشهدا من فيلم «الأب الروحى الجزء 3» والذي يتذمر فيه «مايكل كورليونى» بغضب من فشله في الهروب من قبضة الجريمة المنظمة، لقد أخبرت أوباما أن الشرق الأوسط بالنسبة لرئاسته مثل العصابة بالنسبة لكورليونى، وبدأت في الاستشهاد بعبارة آل باتشينو: «فقط عندما ظننت أننى هربت».. قال أوباما: مكملًا الفكرة «تسحبك مرة أخرى».