خلال مناقشات إعداد الدستور في لجنة الخمسين، ظهر الخلاف حادّا وواضحا بين أنصار الدولة المنية وممثلي جماعة الإسلام السياسي، وهو خلاف يمكن تلمس جذوره، حين سعت ثورة يناير إلى بلورة طموحاتها في صورة مطالب سياسية محددة المعالم، كان أول ما صاغته و أعلنت تمسكها الدائم به مطلب الدولة المدنية. بعدها، بدت الملابسات التي أحاطت بواقعة الاستفتاء على التعديلات الدستورية في مارس2011، أدعي إلى تصاعد هذا الخلاف، ذلك أن القوى الإسلامية تولت خوض هذه الواقعة تحت شعارات دينية واضحة، فيما سميت حال انتهائها “,” بغزوة الصناديق“,” ، وبما تحمله تسمية “,” الغزوة “,” من معاني الغلبة والقهر ذات الطبيعة الدينية الجليّة، بالإحالة إلى الدلالات التاريخية للحروب الدينية أيام العصور الإسلامية الأولى. وبصرف النظر عن واقعة الاستفتاء،نظراً لصدور إعلان دستوري بعدها عن المجلس العسكري، شمل أكثر من ستين مادة دون اللجوء إلى الاستفتاء أو غيره، فمن الواضح هنا وجود قدر هائل من الخلط وعدم الدقة حول مصطلح “,” الدولة المدنية “,”. وزاد من الخلط، أن هذا المصطلح مسْتحدث، لا يمكن الإمساك بمضمونه علي نحو محدد ، وإن بدا بارز الحضور في حياتنا السياسية الراهنة،فيما يشغل الجميع كما يشعل السجال الفكري بين القوى السياسية. ويشار هنا إلى ظهور مصطلح “,”الدولة المدنية “,” لدينا أواخر القرن الماضي، وكان في أول أمره مرتبطا بفكرة كيفية المرور من نظام حكم يجلس على قمته رئيس عسكري إلى رئيس مدني، و استخدم بعد ذلك في مواجهة مشروعات الإسلاميين التي كانت تعادى الديموقراطية، وتطرح في مواجهتها فكرة دولة الخلافة وتطبيق الشريعة الإسلامية،بما يتضمنه ذلك من تمييز ضد الأقباط والمرأة . والدولة المدنية في معناها، تتلاقي مع المصطلح الذي صاغه الفيلسوف الانجليزي جون لوك في القرن السابع عشر، وحدد فيه مبادئ ثلاثة أساسية له،هي : الخروج من الحكم الديني من خلال نقد نظرية الحق الإلهي في التسلط علي الشعوب، وإقامة شرعية الحكم علي العقد الاجتماعي بموافقة المحكومين ورضاهم، و الفصل بين السلطات للقضاء علي كافة أشكال التعسف والاستبداد. و الأمر هنا يتعلق، في الأساس، بالتحول من دولة الفرد إلي دولة المؤسسات، القائمة علي تعزيز الديموقراطية( إقرار دستوري، ضمان حريات، آليات للمحاسبة والرقابة.... ). وفى أدبيات الفكر السياسي،تتراءى مصطلحات أخرى موازية لمصطلح “,” الدولة المدنية“,” فهناك “,”المجتمع المدني “,” و يعنى مجموع المنظمات والجمعيات التي يشكلها الأفراد بصورة مستقلة عن الدولة،و “,” القانون المدني “,”ويتعلق بالحالة المدنية للأفراد، و “,” الأخلاق المدنية “,”وتشير الى مجموعة القيم التي يجب أن يتحلى بها المواطنون في المجال العام، مثل صيانة المال العام، و “,” الفاعل المدني “,” وهو المواطن النشط سياسيا، الذي يتمتع بإحساس قوى بالواجب نحو مجتمعه. وضمن هذه المنظومة، قدم رفاعة الطهطاوي مصطلح “,” الحكم المنى “,”، المستند لديه إلى التمثيل النيابي وتشريعات حقوق وواجبات المواطن ، ناهينا عن صفة “,” المنى“,” المتعارضة مع كل ما هو عسكري. وفى المجمل، يجوز القول أن تأسيس الدولة المدنية ليس قرارا يتم الإعلان عنه في بيان موجه إلى وسائل الإعلام، ولكنه عملية بناء طويلة الآمد، تستدعي يقظة ونضالا متواصلين، تتشكل ملامحها في الالتقاء مع روح العصر، بإقرار حقوق الإنسان، وإلغاء كافة أشكال التمييز،وتداول السلطة، مايشي أن الدولة المدنية ليست حلا سحريا لكل مشكلات المجتمع المصري، فيما تسمح بأفضل الشروط لمشاركة مواطنيها.