رسمت الفوضى التى تعترى المشهد الأمني في ليبيا ، صورة شديدة الهشاشة لمنظومة الدولة ، في ظل ما يعتبره المراقبون غيابا لدور الحكومة المؤقتة ، ووزارة الداخلية والجهات الضبطية والعدلية والأجهزة الأمنية ، حيال ما يجرى من اغتيالات وعمليات اختطاف واعتداءات تستهدف الأرواح بدم بارد . وفيما تسير الأمور في مختلف أنحاء ليبيا خاصة في العاصمة طرابلس وعاصمة الشرق بنى غازي ، على نحو ينذر بانهيار هيبة الدولة مع سيادة أجواء الردود الشخصية والقبلية على الاعتداءات ، تتمدد مناطق نفوذ الميليشيات بشكل يؤشر إلى استحالة قدرة أي حكومة سواء الحالية أو القادمة على ضبط الأوضاع الأمنية أو السياسية في ليبيا ما بعد القذافي . وفى وقت يحاول الليبيون تناسى عملية الاختطاف المثيرة للجدل التى طالت رئيس وزرائهم على زيدان ، جاءت حادثتا مقتل آمر لواء قوات درع ليبيا السابق وسام بن حميد في بنغازي ، وذلك على خلفية مقتل احد ابرز ضباط الجيش الليبي المسؤول عن ادارة الشرطة العسكرية العقيد أحمد مصطفى البرغثى ، لتلقى بظلالها على الأجواء ، خاصة وأن عملية قتل بن حميد أخذت طابعا انتقاميا من جانب قبيلة البراغثة . وكذلك حادثة إقدام ميليشيا ليبية مسلحة بالتحفظ على أكثر من 20 سائقا ومساعد سائق مصريا، ومنعهم من مغادرة الأراضي الليبية واحتجازهم بمنطقة “,”إجدابيا“,” الجبلية بالقرب من مدينة “,”بنغازي ومطالبتهم بإطلاق سراح ليبيين محكوم عليهم بمصر في قضايا تهريب سلاح. حيث أشارت تقارير صحفية نقلا عن مصدر امني ليبي إلى ان مواطنين غاضبين ، هاجموا منزل آمر لواء قوات درع ليبيا (القوة الاولى) وسام بن حميد في منطقة الكويفية الواقعة في المدخل الشرقي لمدينة بنغازي بقذائف “,” ار بي جي “,” ، على خلفية اتهام قبيلة البراغثة القاطنين في المنطقة بوقوف بن حميد خلف مقتل مدير ادارة الشرطة العسكرية للجيش الليبي العقيد البرغثي . ولعل ما يزيد الطين بله في هذه العملية الانتقامية التى لا تعترف بوجود دولة أصلا هو ما يسوقه المنتقمون من مبررات لعملية القتل ، حيث وجهوا اتهامات لقوات درع ليبيا المكونة من الثوار السابقين بالوقوف وراء اغتيال البرغثي ، لتمكينهم من العودة لتامين المدينة مجددا ومنحهم النفوذ الذي كانوا يتمتعون به سابقا ، وهو ما يؤشر إلى طبيعة العلاقات الأمنية بين المسلحين سواء المنتمين إلى القبائل أو التابعين لميليشيات معروفة . وتعيد تلك الوقائع التى تكرس لمبدأ الانتقام الثأري إلى الأذهان ما شهدته منطقة بنى غازي في الثامن من يونيو السابق ، عندما هاجم عدد من المتظاهرين مقرات درع ليبيا ، مما ادى الى مقتل 30 شخصا من الطرفين ، في إطار الصراع على مناطق وحدود النفوذ بين الجانبين ، وهو ما أدى إلى زيادة الفراغ الامني في المدينة التي تمثل حالة أمنية شديدة التوتر. وتعكس الخصومة بين الميليشيات في ليبيا صراعا داخل الحكومة التى يمكن وصفها بالهشة ، حيث يسيطر الاتحاد القبلي المدني على وزارة الدفاع ، بينما تتبع قوة درع ليبيا ذات التوجه الاسلامي وزارة الداخلية. وفي عاصمة الشرق “,” بنى غازي “,” تتمركز قوة درع ليبيا وميليشيات إسلامية تضم مقاتلين مناهضين للقذافي ، بينما يتحصن قادتهم في مدينة مصراتة في قاعدة معيتيقة الجوية ، في وقت تسيطر ميليشيا الزنتان القبلية القوية أو ما يعرف ب “,” ثوار الزنتان “,” ، وهي جزء من اتحاد يضم جماعات معظمها بدوية على منطقة حول مطار طرابلس الدولي . ويستمد “,” ثوار الزنتان “,” قوتهم من كونهم العمود الفقري للمسلحين الذين أطاحوا بنظام القذافي ، ويتميزون بقدرات تسليحية فائقة جراء ما حصلوا عليه من مخازن السلاح التابعة لقوات الجيش الليبي السابق ، رغم أن هذه الجماعات كانت في يوم من الأيام جزءا من قوات الأمن التابعة للقذافي ، قبل أن يطيحوا به . فيما ينقسم البرلمان الليبي وفقا لنسق مشابه ، حيث يختلف اتحاد القوى الوطنية مع الجناح السياسي لجماعة الاخوان المسلمين في ليبيا بشأن مستقبل البلاد ، وهو ما ظهر جليا عقب الزيارة التى قام بها رئيس الوزراء على زيدان لمصر ، الأمر الذى دعا السياسيين المنتمين للإخوان لشن حملة عدائية ضد الرجل ، أدت في النهاية إلى اختطافه وهو ما اعتبره محاولة للانقلاب عليه . وعلى الرغم من اعتياد مواطني ليبيا على “,” البدايات العاصفة “,” لعملية التحول الديمقراطي ، إلا أن خطف زيدان من فندق كورينثيا ، ألقى الضوء على قوة المقاتلين السابقين بعد عامين من إطاحتهم بالعقيد معمر القذافي ، كما دق ناقوس الخطر بقوة حول استمرار الصراع فيما بينهم ، الأمر الذى ينذر بانهيار أحلام الليبيين في الحرية التى دفعوا لأجلها ثمنا باهظا . وفيما يحاول رئيس الوزراء على زيدان درء الاتهامات الموجهة له بالفشل في إقرار الأمن، تؤكد تصريحاته إنه يريد بناء دولة لها جيش وشرطة ومؤسسات ، رغم المحاولات الهادفة لعرقلة هذا التوجه ،بسبب الصراع الواضح للعيان بين الميليشيات المتنافسة على كعكة الثروة والسلطة في البلاد التى تعتبر ثالث أكبر منتج للنفط في افريقيا ، مع عجز الحكومة حتى عن منع مظاهر التسلح الواضحة للعيان لأى زائر للعاصمة نفسها ، حيث يبدو مشهد المسلحين الذين يعتلون شاحنات مشهرين أسلحة مضادة للطائرات عاديا في أجزاء مختلفة من طرابلس . ويبدو إن الميليشيات تستخدم عضلاتها لتحقيق مطالب محددة ، إلا أن الخطورة تكمن في أن الأمر قد يخرج عن نطاق السيطرة ، وهو ما يمكن أن يغير كثيرا من المشهد إلى الحد الذى يغرق ليبيا في الفوضى ، خاصة مع زيادة نفوذ تلك الميليشيات إلى حد قيامها بعمليات غير قانونية ، مثل تهريب الأسلحة والمخدرات واللاجئين ، ورفضها التخلي عن هذه الأعمال ، أو حتى مناقشة مصير مخزونها من السلاح أو الذخيرة . ومع تكاثر تلك المجموعات المسلحة وتعدد ولاءاتها ، تزداد وتيرة الأعمال المسلحة خارج نطاق سيطرة الدولة ، والتي يمكن توثيقها سواء في بنغازي العاصمة الاقليمية لشرق ليبيا الغني بالنفط أو العاصمة طرابلس أو غيرهما من المناطق . ففي بنى غازي هاجم إسلاميون متشددون السفارة الأمريكية في سبتمبر من العام الماضي 2012 مما أدى إلى مقتل السفير الأميركي لدى طرابلس كريستوفر ستيفنز وثلاثة أميركيين عاملين بالسفارة ، فيما سيطر رجال ميليشيات بقيادة قائد أمني سابق على موانئ مهمة في الشرق لمدة طويلة تجاوزت عدة أشهر ، مما أدى إلى تراجع صادرات ليبيا النفطية إلى النصف تقريبا . فيما احتجزت ميليشيا قبلية قوية في غرب ليبيا سيف الإسلام ابن للقذافي في معقلها في الصحراء ، وحتى قبل خطف رئيس الوزراء كان القتال قد وصل إلى طرابلس ، عندما قام مقاتلو الزنتان بأعمال نهب في يوليو الماضي في منطقة أبو سليم السكنية التى يتهمها الليبيون بموالاة نظام القذافي ، وذلك انتقاما لمقتل العديد من رجالهم . وتشير التقديرات إلى أن عدد الليبيين المسجلين في الميليشيات التي تحضع لسيطرة الدولة شكليا إلى أكثر من 200 ألف مقاتل ، ويحصل هؤلاء المسلحين على رواتب من الحكومة لكنهم يتصرفون باستقلالية ويتلقون الأوامر من قادتهم المحليين أو من الزعماء السياسيين الموالين لهم ، ويرفضون حملات تقوم بها الحكومة لتجنيدهم في صفوف قوات الأمن. وقد شكل البرلمان الليبي ما يعرف ب “,”قوة درع ليبيا “,” العام الماضي ، بعدما ضاق ذرعا بفشل الحكومة المتكرر في السيطرة على الميليشيات القبلية ، رغم محاولات دمجها في قوات الشرطة والجيش ، حيث وافق أعضاء المؤتمر الوطني العام على تجهيز تلك القوة حتى تكون بمثابة “,”جيش احتياط “,” في البلاد ، وهو ما أدى إلى نشوء ما يشبه ميليشيا جديدة لها ولاءات جديدة . ويبدو أن القائمين على تلك القوة “,” درع ليبيا “,” أرادوا من خلالها خلق حالة من التوازن ، خاصة في العاصمة طرابلس التى تعانى من انتشار المسلحين ، وهو ما أدى إلى استياء ميليشيات قبلية من بينها ورفلة وهى أكبر قبيلة ليبية وكذلك ميليشيا ثوار الزنتان القوية ، بينما حظى الأمر بترحيب الكثير من سكان ليبيا الذين ضاقوا ذرعا بمقاتلي الزنتان الذين يقيمون معسكرات دائمة لهم في عدة مواقع استولوا عليها في العاصمة ، بعدما هاجموا قصور القذافي وصادروا الأسلحة والأموال قبل سقوطه. وتتباين التوجهات داخل ليبيا بشأن القوة التى يجب أن تسيطر على الأوضاع الأمنية ، وتتمايز تلك التوجهات بين محاولات لإحياء التحالفات القبلية ، أو دعم الميليشيات الممولة من الدولة في إطار المساعي لتشكيل جيش وطني ، أو تشكيل جيش وطني وفق نظم مؤسسية تخضع لقوانين الدولة وتدين بالولاء لها . إلا أن تعدد ولاءات المسلحين بين ميليشيات قبلية ذات توجهات وطنية ، وأخرى ذات توجهات اسلامية ينتمى بعضها لتنظيمات متشددة مثل القاعدة ، يؤشر إلى احتمالات مواجهة دموية بعيدة عن سيطرة الدولة الليبية ، بهدف إعادة رسم مناطق النفوذ ، وهو ما يعنى استمرار ضعف الدولة وعدم قدرتها على ضبط الأوضاع الأمنية بدون دعم إقليمي ودولي . أ ش أ