يطلب الناس من كاتب المذكرات أن يقول ويعترف، فإذا اعترف صدمهم ما قاله وانقلبوا عليه. بالنسبة إلى «هيكل» فإن «الاقتراب من قول الحقيقة يصدم القراء والأصدقاء، ويجعل إرضاءهم دائمًا على حساب الحقيقة، بحيث تصبح المذكرات مجرد إعادة اختراع الكاتب لذاته، مع ادعاء الحكمة بأثر رجعي». «كل إنسان فى سيرته الذاتية يعيد على نحو أو آخر اختراع نفسه من جديد، ليس على الصورة التى كانت، وإنما على الصورة الملائمة لأن الأمر يحتاج إلى شجاعة لقول الحقيقة مجردة» (1). كان «هيكل» يبرر بهذه الكلمات امتناعه عن كتابة مذكراته. فى حوار له مع مجلة «نصف الدنيا» ضمن سلسلة اللقاءات التى أجرتها معه سناء البيسى، تحدث «هيكل» عن قضية المذكرات، وكان قد تعهد أواخر التسعينيات - خلال ندوة نظمها صالون إحسان عبدالقدوس الثقافى - بأن يختتم مشواره الصحفى ب«كتاب عن حصاد العمر». يقول: «إن من يقول الحقيقة كاملة، تقفز أمامه علامات استفهام كثيرة، لقد حاول لويس عوض وتوفيق الحكيم أن يقتربا من الحقيقة بطريقة ما، أو حتى بشكل أجريا عليه بعض التحسين، ومع ذلك لم يقبل الناس هذه الحقيقة». «إن الناس تترك كل ما قدمه كاتب ومفكر ومبدع مثل الدكتور لويس عوض، وتترك كل مواقفه السياسية ومعاركه الفكرية، ولا يلفت نظرها فى مذكراته سوى متاعبه العائلية مع أبيه أو مع أخيه، وتوقف الذين قرأوا سيرة الدكتورة لطيفة الزيات طويلًا عند اعترافها بأن سر تأخر طلاقها من الدكتور رشاد رشدى – الذى اختلفت معه سياسيًا وفكريًا - هو حاجتها الخاصة جدا إليه.. إن هذا المشهد الذى لا يحظى بأى قيمة إذ ما قورن بباقى المشاهد قد انتقل من الخلفية إلى الصدارة فى عقل كل من قرأ المذكرات» (2). يستشهد «هيكل» بسعد زغلول الذى كتب فى مقدمة مذكراته «ويل لى ممن سيقرأ مذكراتى من بعدى»: «كان الرجل قد اعترف فى يومياته بأشياء كثيرة، حيث كان متأثرا باعترافات جان جاك روسو، وبالتالى كتب عن علاقته بزوجته، وعن رأيه فى الناس، ولعله لذلك استدرك بقوله: ويل لى ممن سيقرأ هذه المذكرات من بعدي». المذكرات عنده «لا تُملى ولابد أن تكتب كنص يقف فى منتصف المسافة بين أدب الاعتراف والصياغة الأدبية الجميلة. وهى تحتاج لتخطيط محكم لأن كتابة الاعتراف أو كتابة السيرة الذاتية تختلف عن أى كتابة أخرى». أراد «هيكل» أن يغلق الباب أمام «سناء» لتبتعد قليلًا عن قصة المذكرات: «بالنسبة لكتابة سيرتى الذاتية مازال لدىّ بعض الوقت، وإن كنت أدرك أن ما تبقى منه ليس كثيرًا». لم يكتب الأستاذ «هيكل» مذكراته – وفق ما هو معلن- وإن روى بعض فصولها «السياسية» لعادل حمودة فى كتابه «هيكل.. الحياة والحب والحرب.. هو وعبدالناصر»، مع وعد فى مقدمة الكتاب- الصادر فى نوفمبر 2000- بجزء ثان (هو والسادات ومبارك) لم يصدر إلى هذه اللحظة، واختص يوسف القعيد بجانب من ملامحها الثقافية فى «محمد حسنين هيكل يتذكر.. عبدالناصر والثقافة والمثقفين»، وهو كتاب ضم حوارًا مطولًا أجراه «القعيد» مع «هيكل» عن «عبدالناصر» والثقافة والمثقفين والفنانين. ثم إن «هيكل» تحدث عن جانب من حياته المهنية فى كتابه «بين الصحافة والسياسة.. قصة ووثائق معركة غريبة فى الحرب الخفية»، مساعد مخبر صحفى فى قسم الحوادث بجريدة «الإجيبشيان جازيت» (فترة التكوين المهنى الأولى 1942- 1944)، ثم محررًا ب«آخر ساعة» مع محمد التابعى قبل أن تباع المجلة – بمن فيها – ل«أخبار اليوم» لصاحبيها مصطفى وعلى أمين، محررًا فيها وسكرتيرًا لتحرير «آخر ساعة» فى نفس الوقت، ثم رئيسًا لتحرير «آخر ساعة» ومساعدًا لرئيس تحرير «أخبار اليوم».. ثم رئيسًا لتحرير «الأهرام». يمكن أن نقول إذن إن «هيكل» سار على طريق نجيب محفوظ، الذى رفض كتابة مذكراته واكتفى بما رواه لرجاء النقاش فى «نجيب محفوظ: صفحات من مذاكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته»، وهو كتاب يتضمن سلسلة حوارات أجراها رجاء مع «محفوظ» استمرت 18 شهرا سجل خلالها نحو 50 ساعة، وما جمعه جمال الغيطانى فى «نجيب محفوظ يتذكر» و«المجالس المحفوظية». «هو يترك كل حياته للآخرين لأن كل مواقفه، وكل أعماله، وكل آرائه، وكل مشاكله، وكل تطورات حياته، ومراحلها، موجودة، ومسجلة على الورق، وهى مهمة آخرين يستطيعون المتابعة والحكم». (3) هل نستسلم لما هو معلن؟ الشهادة نستحق أن نتوقف أمامها، فهى لواحد اقترب من الأستاذ هيكل بأكثر من أى شخص آخر. لدى يوسف القعيد رؤية خاصة فى مسألة مذكرات «هيكل»: «أتصور أنه كتبها وأودعها فى مكان ما من هذا العالم». (4). يفصل «القعيد» فى حوار لجريدة «عمان» (19/05/2014) ما أجمله فى مقاله ب«المصرى اليوم» المعنون «هيكل بقلم هيكل» ( 21 / 9 / 2013): «الأستاذ هيكل يتحصن وراء نفى أنه يفكر فى كتابة مذكراته، وإن كنت أعتقد إما أنه كتبها، أو يكتبها أو سيكتبها. وهو يتكتم على هذا الأمر تمامًا. وأنا مع تكتمه. وكلما سألته عن المذكرات، اكتفى بالصمت. لا ينفى ولا يؤكد. وهو محق فى هذا لسببين: سبب فني، هو أن الإنسان عندما يتكلم عن أمر يكتبه يخرج انفعاله مع الكلام. ولا يبقى له عندما يجلس إلى الكتاب ما يمكن أن يكتبه. وتلك كانت أزمة يوسف إدريس فى أيامه الأخيرة. كان يحكى قصصه التى يعمل عليها. فكنا نسمع منه قصصا مبهرة، لكن عندما ينشرها ونقرؤها نكتشف أن المنشور أقل بكثير مما حكاه يوسف إدريس، الأمر الثانى أمنى. فكم من مصرى وعربى وعالمى قتل لأنه فكر فى كتابة مذكراته. والأمثلة كثيرة حتى سعاد حسنى عندما ثرثرت فى لندن أنها مشغولة بكتابة مذكراتها، وأنا أعرف أنها كانت تكتب بصعوبة. فقد تعلمت على كبر، دفعت حياتها ثمنا لأنها روجت لكتابة مذكراتها، مع أنها فى ذلك الوقت كانت تعد رباعيات صلاح جاهين لكى تسجلها بصوتها للإذاعة البريطانية كوسيلة للحصول على المال، بعد أن أوقفت الحكومة المصرية قرار علاجها فى لندن لأنها استنفدت المدة. واتخذت القرار وأبلغته للسفارة المصرية فى لندن. فوجدت سعاد حسنى نفسها– وهى من هى– بدون أى مورد رزق، أما أن تكتب مذكراتها فأشك كثيرا فى هذا. أيضا أشرف مروان كان يكتب مذكراته. وفى اليوم الذى اغتيل فيه كان سيسافر فى آخر النهار إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية من لندن للاتفاق مع دار النشر على نشرها، وكان يريد نشرها باللغة الإنجليزية أولا. لكنه تم اغتياله واختفت المذكرات، على الأقل أسرته هى التى أعلنت هذا». يلح يوسف القعيد على أن «هيكل» كتب مذكراته، فما هو يكتب لجريدة «الأهرام» تحت عنوان: «مطلوب من الأستاذ»، وذلك فى الاحتفال بعيد الميلاد ال92 ل«هيكل»: «لدىَّ يقين أن الرجل دوَّن فعلاً مذكراته، هذا اليقين لا تسنده معلومات محددة، لكنه إحساس بداخلى أو هاجس فى عقلى. أتصور أنه صحيح، أما ما هو أكثر من هذا. فلا يوجد لدىّ ما يمكن قوله». ما نحتاجه الآن «كلمة فصل» من أسرة الأستاذ هيكل فى «مسألة المذكرات»، فإذا كان قد دونها فعلًا فحق لنا أن نطلع عليها، وإذا لم يكن نكون قد أغلقنا هذا الملف نهائيًا. «1» مفيد فوزى.. هيكل الآخر. «2» عادل حمودة.. هيكل.. الحياة والحب والحرب. «3» مفيد فوزى، المصدر السابق. «4» يوسف القعيد، «هيكل بقلم هيكل»، المصرى اليوم.