كانت تشرب قهوتها آخر اليوم، وتستعد لمغادرة مكتبها، وقبل أن تضع فنجانها فى طبقه ظهر مساعدها، وعبر تردده، وصلت إلى أذنها إخباريته: - دكتورة هناك جثة جديدة. أعادت النظارة إلى وضعها الطبيعى وابتسمت ساخرة: - لا بأس. على طاولة التشريح كانت ممدة كغيرها من الجثث، كشفت الغطاء، هبت رائحة من الذكريات، بدأت تتفحص أعضاءها الظاهرة.. أصابعه نحيلة وملوثة بالجير الأبيض، دوائر زرقاء وبنفسجية حول عنقه، قرحة على شفتيه.. كانت تحس به.. تعرفه كأنما شرّحته من قبل.. سألت: أين وجدوه؟ وجاءت الإجابة التى تحاول تذكرها: - أمام مستشفى أبو الريش على محطة الأتوبيس، لم ينتبه أحد من المارة إلى وفاته. أخذت دائرة الضوء تتسع.. لتعود.. وتعود... تخاصمها أيامها، وتعطيها وجهًا ضبابيًا تغرق فيه. وعلى السطح يطفو حلمها، وأمنيات أمها، وفرحة أبيها. وهو يقبض على ورقة الإخطار بترشيحها لكلية طب القاهرة. ودعوات أم سيد بائعة الخضار على ناصية شارعهم كل صباح: - روحى اللهى يفتحها فى وشك يا دكتورة. أعوام بالنجاح تصطاد حلمها، لكن الحلم يتحول إلى كابوس، وفى الروح خبايا لا تسبر غورها، تبدو لها كنبوءات وإشارات سوداء تشرد بها بعيدًا عن الجثث الضاربة فى الزرقة والمائلة للسواد، تشعر بغثيان، ودوار يكاد يطيح بها، تظل بعيدة والرفاق يتزاحمون حول الطاولة، تتراجع، وتتراجع درجتها فى التشريح إلى صفر، الفشل الذى لم تعرفه أبدًا تعيشه الآن، يحاول زملاؤها مساعدتها، لكنهم لا يعلمون أن الجثث لا تبوح لها بشيء، بل تسرق روحها، تفر من المشرحة لكن إلى أين؟ فى البيت تأتى أمها بعروسة ورقية، تقرأ المعوذتين، وبإبرة تفقأ كل من رأتها ولم تصل على النبى، تتهامس الجارات.. - البنت مسحورة. - معمول لها عمل. تهرب من دجل المشايخ والمشعوذين، تجلس على محطة الأتوبيس المجاورة لطب الأسنان، دقائق وتنهض.. الشارع واسع ومزدحم بمارة يحملقون فيها، تسير بمحاذاة قصر محمد على، تعبر الكوبرى الصغير.. أمامها مباشرة قصر العينى، تتأمله، حتى فى لحظات اضطرابها هذه تشعر بالحنين إليه وكأنه جزء من روحها، من تكوينها، كلما نجحت بتفوق فى أعوامها الدراسية كانت تصعد فوق سطح بيتهم فى المنيرة وتنظر إليه، وكانت المسافة تقترب عامًا بعد عام. تختار الجلوس على المحطة المواجهة لمستشفى أبو الريش.. الشارع قصير وهادئ، كما أنه فى الوسط بين بيتها والكلية.. تفاجأ بشيء يصطدم بساقها، وألم مكان الصدمة. تنظر حولها.. حركة السيارات خفيفة، تنتبه، لا أحد سواه.. مجنون المنيرة بشعره الذى تتداخل خصلاته الطينية، وجلبابه الممزق الذى يكشف أكثر مما يستر.. ينحني على الأرض يلتقط طوبة أخرى، يشيح لها بذراعه، تتبعثر كلماته وحركات جسده فى الهواء. كانت قد سمعت به من قبل، وفى أيامها الواثقة وهى مقبلة بلهفة الرؤى، والسحر الكامن فى حرف الدال، والبالطو الأبيض على ذراعها، لم يكن له وجود على خريطة بهجتها، رغم أنها تمر به كل يوم. يقذفها بطوبة أخرى تصيب كعبها، تمسح الدم بمنديل ورقى، تتشبث بالجلوس على المقعد، تنظر إليه بغيظ وهى تتحسس موضع الإصابة فى كعبها، ما زالت فى يده طوبة أخرى، تتجمع دمعة فى حدقتها، وعبر دموعها يعبر الشارع ويجلس على نفس الرصيف، أمتار معدودة تفصل بينهما، أغلق عليها طريق البيت.. ما زالت الطوبة فى يده، يرعبها صمت الأشياء غير العاقلة لا تدرى ماذا تفعل...؟ الوقت يمر ثقيلًا كالرصاص، وقد غابت الشمس خلف مبنى أبو الريش، وصوت المترو يبدو أكثر وضوحًا كريشة فى مهب الريح استسلمت، ويبدو أنه استسلم لاستسلامها، فتكوم على نفسه وتمدد على الأسفلت، انقبض الهواء المحيط بها، وهبت ريح لاسعة. بدا فى نومه كما لو أنه غارق فى الموت، كانت رائحته عفنة وخانقة، وكل ما فيه أسود يغطيه العفن، لا ينقصه سوى سائل الفورمالين، انقبضت.. الجثث دائمًا أمامها.. يده المعروقة السوداء، وأظافره الطويلة، ورائحته النفاذة تسرع من انهمار دموعها وتزيد من تشنجها، تفرغ كل شحنتها، وعندما تصل إلى أغوار بئرها ولا تجد ماء تحمله معها، تهدأ. تخرج من جلدها تلتفت للمسجى بجوارها.. وتتساءل عن حكايته، تتردد.. هل توقظه..؟ ربما يقذفها بطوبته الأخيرة، بعينيها تربت على كتفه.. يتمدد على الطاولة، تزيل عنه ملابسه المتسخة، تلصق النظارة على عينيها، وفى يدها اليمنى «مشرط» وفى اليسرى «جفت»، يتجمع حولها زملاؤها، تشرح لهم، تلمس أصابعه الطويلة النحيلة وتخمن.. كان موسيقيًا أو ربما جراحًا أو ربما كان مهندسًا للكمبيوتر. أصابعه ملوثة بلون أبيض جيرى، تتساءل فى خيالها: - مدرس؟ ما علاقته بالتدريس؟ يضغط بقوة على فكه السفلى، يكاد يحطمه.. تفسر: - جاءته منحة إلى أمريكا أو ألمانيا، لكن آخر تقف وراءه سلطة المنح والمنع شغل مكانه، أما هو فقد عينوه مدرسًا للكمبيوتر فى مدرسة ثانوية. انتفض جسده.. تخمن باقى القصة، الطالبات مثقلات بالفيزياء والكيمياء والتاريخ والجغرافيا، لا وقت لمادة لا يعترف بدرجاتها مكتب التنسيق. يشير زملاؤها إلى دوائر زرقاء وبنفسجية حول عنقه. تجيبهم: - أسابيع، ولا طالبة تدخل المعمل، وحصصه تأخذها المواد الأهم. - يوجد التهاب فى لسانه وقرحة فى شفتيه؟ - كثرت مشاحناته والتقارير السوداء، شيئا فشيء بدأ يتحدث إلى الأجهزة التى يعلوها الغبار، ويشرح لها، اتهموه بالجنون وطردوه. صفق لها زملاؤها، وأشار الأستاذ الكبير لتقف إلى جواره. كان ما زال متكومًا على نفسه، والشارع أصبح مهجورًا، نهضت ضاغطة على ألم كعبها، ولمست كتفه الأسود العارى، مستكينًا، مشى إلى جوارها، وعند أول مطعم فول وطعمية، دخلت، طمأنته، جلست أمامه تراقب أول جسد يبوح لها بأسراره على طاوله التشريح وهو يأكل. أمسكت بالتقرير.. - الوفاة طبيعية. ووقعت باسمها. استفسر المساعد، أجابته بحسم: - لقد شرّحته من قبل.