ما أتعس المبدع في بلدنا! ينفق جل عمره لتحقيق هدف يراه لا بديل عنه للدفع بوطنه على طريق الارتقاء، وعندما يحرز الهدف ويحظى بتقدير العالم، يفاجأ بجحود بني جلدته! أصف لكم مشهدًا بلغت فيه تعاسة المترجم الدكتور محسن فرجاني ذروتها. عاد الرجل من بكين، بعد تقدير منجزه الضخم، ولقائه ب“,”ليو يان دونغ“,” نائبة رئيس مجلس الدولة، وأمام التليفزيون راح يتابع نشرة الأخبار، فلفتته تهنئة رئيس الوزراء لمنتخب كرة السلة لتأهله لمسابقة كأس العالم، وانتهت النشرة، لتسأله زوجته الشاعرة حنان مرزوق: “,”ألا يعلم رئيس الوزراء أن الصين منحتك واحدة من أهم جوائزها؟! ألم تتناقل وكالات الأنباء الخبر؟!“,”. لم يكن أمام محسن فرجاني من إجابة سوى الصمت. ولأننا تفوّقنا في صناعة التعاسة في مصر، فقد توهجت المأساة في مشهد التكريم الذي قام بإعداده المركز الثقافي الصيني في مصر احتفاء بالرجل! كان فرجاني أول عربي يقف في قاعة الشعب الكبرى بالعاصمة الصينية لتسلم جائزة “,”الإسهام المتميز في الكتاب الصيني“,” التي تمنح للأجانب الذين لعبوا دورًا بارزًا في تقديم الثقافة الصينية للعالم، بعد أن رشّحته الصين لنيلها في دورتها الأخيرة. توجهت، مساء الخميس الماضي، بصحبة صديقي الروائي أشرف الخمايسي، إلى شارع ابن بطوطة بالهرم، نلبي دعوة مديرة المركز الثقافي الصيني لحضور التكريم. ارتقينا سلم المركز ونحن نتوقع أن نجد في مقدمة الحضور كبار المسئولين عن الثقافة في بلادنا، والمعنيين بحركة الترجمة في مصر. ونظرًا إلى قرب مسرح التكريم من قصر الفنان يوسف بك وهبي، أسمح لنفسي أن أستعير تعبيره الشهير: “,”وا أسفاه“,”! فالقاعة تخلو من أي مسئول، وفي ركن قصي منها تجري مراسلة التليفزيون الصيني حوارًا مع فرجاني، بينما يجلس المترجمان محمد إبراهيم مبروك والدكتور أنور إبراهيم على مقربة منهما في انتظار بدء الفعالية، ومن حولهما مجموعة من طلبة المحتفى به ممن درسوا على يديه في قسم اللغة الصينية بكلية الألسن. كان المشهد يشي بفشل هذه الاحتفالية، غير أن الإحساس بالإحباط سرعان ما تبدّد عندما هلت “,”ديما“,”، وهذا هو الاسم الذي ألف المصريون مناداة “,”تشين“,” مديرة المركز الثقافي الصيني به، وبدأت حديثها إلى ضيوفها موضحة أسباب تقدير بلالدها لجهد الدكتور محسن فرجاني، وأهمية الدور الذي لعبه في مد قنطرة ثقافية بين حضارتين عريقتين، وتبعت كلامها بعرض فيلم وثائقي أعده الصينيون حول استقبالهم لهذا المصري الذي اختار الطريق الأصعب عندما تصدّى لترجمة كلاسيكيات الثقافة الصينية إلى العربية بأسلوب رائق، وكان الفيلم تمهيدًا ليبسط بعده فرجاني تجربته مع هذه الثقافة، ويوضح كيف أعد العدة لامتلاك ناصية الثقافتين حتى تخرج ترجماته في هذا الثوب القشيب. ولم يفت فرجاني أن يؤكد اعتزازه بنيل هذه الجائزة، سيما أنه أول عربي يحصل عليها بعد ستة أسماء مهمة من مختلف الجنسيات والبلدان: من أمريكا “,”إزرا فوجل“,” المتخصص في الشئون الصينية، ومن السويد “,”آنا جوستافسن“,”، مترجمة روايات “,”مويان“,” إلى لغتها الأم، ومن إندونيسيا “,”يوزا سورياوان“,”، ومن إيطاليا “,”ليونيللو لانشوتي“,”، ومن الأرجنتين “,”جورجي.مالينا“,” وفي ثنايا حديثه عن سبب سلوكه الطريق الصعب المتمثل في تصديه لترجمة كلاسيكيات الثقافة الصينية، يتوقف أمام خصوصية الفلسفة الصينية التي تختلف تمامًا عن مثيلتها في اليونان، إذ لم تتعالَ على الناس ولا سخرت من الدهماء، ولا اعتبرت الفكر ترفًا للسادة، حكرًا عليهم وحدهم دون سواهم، ولا وضعت فوق البشر مثالًا أرفع وأكمل، أو سبحت في غياهب ما وراء الطبيعة. ويكشف فرجاني أن الصدفة وحدها هي التي كانت وراء ولعه بعالم الصين العجيب منذ اطلع، وهو بعد في مرحلة الدراسة الثانوية، على الترجمة العربية لكتاب رحالة أمريكي، لا يتذكر اسمه، يصف فيه مشاهداته في بكين، ومن جديد تلعب الصدفة دورها معه عندما يتوجه في عام 1977 ليقدم أوراق التحاقه بكلية الألسن، فإذا بها تفتتح لأول مرة في ذلك العام قسمًا للغة الصينية، وهكذا يحسم أمره ويتجه شرقًا. ويعترف لنا فرجاني بأن تعرّفه على اللغة الصينية، لأول وهلة، كان أمرًا صادمًا بسبب اختلاف نظامها الصوتي عما ألفته أذنه من نغمات وإيقاعات، واختلاف رسومها وأبجديتها عن اللغات الأخرى التي تعلّمها. ولم يخفف من وطأة ذلك الأثر سوى وجود اثنين من الأساتذة الصينيين تعهداه في مرحلة التأسيس. ويذكر أنه لم يجرؤ على البوح بأنه يترجّم إلا بعد أن اشتد عوده وأجرى العديد من الاختبارات القاسية على منتجه. ويرجع انتباهه إلى أهمية الترجمة عن الصينية إلى تعرفه، في أثناء وجوده في المدينة الجامعية لجامعة عين شمس وهو يدرس بالسنة الثالثة بالألسن، إلى المستعرب الصيني “,”صافي“,” الذي كان موفدًا في نهاية السبعينيات من القرن الماضي للدراسة في مصر، ومن خلاله انتبه إلى أهمية قيامه كعربي بالتصدي لترجمة للكلاسيكيات الصينية، قبل أن يشرع في ترجمة العديد من الأعمال الأدبية الصينية الحديثة، ومنها: روايتا “,”الثور“,”، و“,”الحلم والأوباش“,” ل “,” مويان“,” أديب الصين الحائز على جائزة نوبل في دورتها الأخيرة. وتتسع المناسبة، ويتحوّل التكريم إلى ورشة لطرح قضايا كثيرة تتصل بصنعة الترجمة، مما يجوز فيها وما لا يجوز، وكيف يمكن تقدير حجم الخسائر التي يتعرّض لها النص المترجم بسبب ما اصطلح على تسميته بالتصرف أو الخيانة. *** ربما يمكن للدكتور محسن فرجاني أن يتسامح في إهدار حقه المنوط بأجهزة وزارة الثقافة أن تمنحه إياه، كمصري شهد العالم أنه حقق إنجازًا غير مسبوق، لكن.. هل يمكننا نحن أن نتسامح في حق مصر المسفوح من قبل المسئولين كونهم يقوضون فرصًا ذهبية لعقد أواصر العلاقة بشكل أكثر متانة بيننا وبين الصين، وبخاصة في ظل استشراف هذا المنحنى الصعب الذي تحاول السياسة الخارجية المصرية عبوره بأمان؟