رحلت الكاتبة وعالمة الاجتماع المغربية فاطمة المرنيسي، عن عمر يناهز 75 عامًا، صباح اليوم الإثنين. طالما عُرفت الفقيدة بأبحاثها الفكرية والاجتماعية لخدمة قضايا تحرير المرأة، ووقفت أمام أشد المتطرفين والأكثر جنحًا تجاه اليمين الراديكالي، وربما كانت أصولها البرجوازية سببًا رئيسيًا في تعليمها إبان الاحتلال الفرنسي للمغرب، حيث ولدت المرنيسي عام 1940 في مدينة فاس، وترعرعت في أوساط عائلية محافظة، حيث كانت عائلتها مقربة من الحركة الوطنية المناوئة للاستعمار الفرنسي، وعاصرت في طفولتها ظاهرة "الحريم" في بيوت الطبقة الغنية. وكانت المرنيسي من القليلات اللاتي حظين بحق التعليم في عهد الاحتلال الفرنسي، وذلك بفضل المدارس الحرة -الخارجة على نمط التعليم الفرنسي- التابعة للحركة الوطنية. ثم واصلت مسارها التعليمي في الرباط، قبل أن تنتقل إلى فرنسا، ثم إلى أميركا لاستكمال تكوينها العلمي. عاشت الاستقلال، وتمنت مثل بنات جيلها بتحقيق أحلام التحرر من القبلية والنزعة العنصرية التي تعاني منها المرأة العربية، ولكن الإحباطات كانت حاضرة، نتيجة إلى فرض قيود صارمة على المرأة، إضافة إلى النظرة الدونية لها، فكسرت كل تلك الحدود وسافرت إلى جامعة السوربون، للحصول على الإجازة في علم الاجتماع، وهنا قررت أن تنصب نفسها للدفاع عن حقوق المرأة، وكرامتها، فدرست، القرآن الكريم لتدافع به عن حقوق المرأة، وهذا ما قادها إلى تأليف كتاب النبي والنساء "الذي نشر سنة 1987، وهو الكتاب الذي صادرته الرقابة آنذاك، ولم يكن هذا الكتاب هو الوحيد الذي طالته الرقابة، بل صادرت كذلك أطروحتها المعنونة الجنس كهندسة اجتماعية، وكذلك كتاب "الحجاب والنخبة الذكورية". ورغم ذلك استمرت فاطمة المرنيسي في التأليف من أجل المرأة، دفاعا عنها بكل ما أوتيت من قوة، وفي سنة 1991 صدر كتابها "المغرب عبر نسائه" وهو مؤلف ارتكز بالأساس على مقابلات حية أجرتها مع نساء قرويات وعاملات وخادمات بيوت ابتداء من عام 1983. إنها بكتابها هذا مكنت من إسماع صوت النساء اللائي كان لا أحد يستمع إليهن. وفي سنة 1992 صدر كتابها "الخوف من الحداثة: الإسلام والديمقراطية"، وهي دراسة نقدية للقهر الديني. اختارتها جريدة الجارديان للمناضلات النسائيات الأكثر تأثيرًا في العالم، عُرفت بأفكارها التي تدعو إلى تحرير المرأة من سطوة الأعراف والتقاليد والمساواة الكاملة للنساء مع الرجال. كتبت مؤلفاتها بالفرنسية، فاتهمها البعض بأنها تكتب إلى المجتمع الغربي، ولكن ترجمة أعمالها لم تقف حائلًا بينا وبين الشرق، فترجمت إلى العربية، وأكثر من 30 لغة أخرى من لغات العالم، وكانت لها مساهمة في النضال من أجل المساواة بين الجنسين. ولفاطمة المرنيسي مؤلفات أخرى، منها " شهرزاد ليست مغربية " و"سلطانات منسيات" و"هل أنتم محصنون ضد الحريم" و"الجنس والإيديولوجيا والإسلام"، ويعتبر كتابها "نساء على أجنحة الحلم" الصادر سنة 1995 بمثابة سيرة ومتابعة لتجربة شخصية منذ الطفولة والصبا، كشفت فيه عبر النسق الثقافي السائد في أربعينات القرن الماضي، ورصد التحولات بفعل المؤثرات الخارجية. إلا أن فاطمة نفسها أكدت، أن هذا الكتاب ليس بسيرة ذاتية، وإنما هو تجميع لأحداث متخيلة على شكل حكايات تروى لطفلة صغيرة السن. تميزت كتابات فاطمة المرنيسي من قلب المعاناة وصميم الواقع المعاش، عاكسة للصورة الحقيقية للواقع بكل ما تحمله النفس البشرية من مشاعر القهر تارة، والفرح والرضا تارة أخرى. ولم تنتقد المرنيسي وضعية المرأة في العالم العربي الإسلامي فقط، بل مضت إلى نقد وضعيتها في المجتمع الغربي في كتابها "هل أنتم محصنون ضد الحريم؟" الذي عرت فيه واقع الاستلاب والعبودية المقنعة، التي تسود غربا ينظر إلى المرأة بوصفها دمية معدة للاستغلال من قبل الرجال، كما وجهت نقدا لاذعا إلى نظرة الغرب النمطية للمرأة العربية، التي تحصرها في الجنس، والشهوة، وغلبة الرجال. وترى المرنيسي أن حريم الغرب أشد وطئا على المرأة من حريم الشرق، حيث يحدد الرجال في الغرب مفهوم الجمال والأناقة والنحافة والموضة، مما يجعلها دمية في يد الرجال. ولم تكن فاطمة المرنيسي متنكرة لحضارتها العربية الإسلامية وإسهاماتها في تحرير المرأة كما يرى أصحاب القراءات الجاهزة والمتسرعة، بل كانت تفرق بين النصوص الدينية الإسلامية من قرآن وسنة، التي تعتبر إطارا متقدما لحرية المرأة والواقع التاريخي، الذي اتخذ منحى تراجعيا خطيرا في عصر ما بعد النبوة، حيث أصبحت المرأة أسيرة التقاليد والتأويلات الخاطئة للنصوص الدينية، وهو ما تجلى في أبحاثها حول الجنس، وتوزيع السلطة في الفضاء الاجتماعي، ودور المرأة في التاريخ الإسلامي. وربما انشغلت المرنيسي بقضة الحجاب، وحق المرأة في حرية الحركة والتنقل، اشادت بنضال هدى شعراوي، وعن حريتها الشخصية، ومناهضة لبسها الحجاب، والتي تمكنت من رفع سن زواج الفتاة المصرية إلى سن السادسة عشر، كذلك تمكنت من إقرار حق الانتخاب للمرأة، وتسترشد أيضا بالسيدة عائشة تيمور، والمرأة اللبنانية زينب فواز، وقاسم أمين صاحب كتاب تحرير المرأة، وتستشهد بثورة كمال على أتاتورك العلمانية التركية، والذي ألغى لبس الحجاب لدى المرأة، كما منحها حق الانتخاب والترشيح، وألغى موضوع الأحاريم والاستبداد. وبسبب الدعم المالي لمرنيسي من قبل جهات غربية وكتبها التي تنشر باللغتين الفرنسية والانجليزية، تعرضت مرنيسي لاتهامات بأنها تكتب لجمهور غربي. غير أن هذا الادعاء لا أساس له، إذ أن نضال فاطمة مرنيسي من أجل الديمقراطية يحظى بالتقدير في بلدها المغرب. فنظمت شبكات التواصل وتجمع بين الأفراد المناضلين من أجل الديمقراطية، وبإرشاد ومرافقة فاطمة مرنيسي، ألف العشرات من الكتاب والمثقفين المغاربة في الأعوام الأخيرة كتبا تتناول موضوعات حساسة مثل الاستغلال الجنسي والفساد والتعذيب، نذكر منها كتاب البغاء والجسد المستباح لفاطمة الزهراء أوزوريل، متطرقين بذلك لهذه المواضيع لأول مرة على الرأي العام في المغرب. أهدت فاطمة المرنيسي، ابنة مدينة فاس، إلى الخزانة المغربية العديد من المؤلفات التي تتعدد بين علم الاجتماع والبحث التاريخي والرواية. يشار إلى أن المرنيسي حصلت عام 2003 على جائزة أمير أستورياس للأدب (أرفع الجوائز الأدبية بإسبانيا) مناصفة مع سوزان سونتاغ. وحازت عام 2004 على جائزة "إراسموس" الهولندية إلى جانب المفكر السوري صادق جلال العظم والإيراني عبد الكريم سوروش، وكان محور الجائزة "الدين والحداثة".