يلمع في تاريخ المجاهدين اسم عبدالقادر الحسيني، كأبرز شيوخ المقاومة الفلسطينية في مواجهة الاحتلال الصهيوني، فكان أول من جهر بمقاومة الاحتلال خلفًا لوالده الراحل شيح مجاهدي فلسطين، ووقف أمام احتلال بلاده حتى الرمق الأخير، وعاش طيلة أعوامه الأربعين من أجل قضيته. في عام 1907 أشرقت شمس القدس على ميلاد ابن شيخ المجاهدين في فلسطين موسى كاظم الحسيني، الذي شغل بعض المناصب العالية في الدولة العثمانية أنعمت عليه الحكومة بلقب الباشاوية، وعندما انهارت الدولة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى، ووقعت فلسطين في قبضة بريطانيا.. كان الأب يشغل منصب رئاسة بلدية القدس، كما تم انتخابه رئيسًا للجنة التنفيذية للمؤتمر الوطني الفلسطيني؛ فكان أول من رفع صوته في وجه الانتداب البريطاني، وأول من دعا أهل فلسطين إلى الاحتجاج والتظاهر وإعلان السخط والغضب ضد وعد بلفور، فتولى قيادة أول مظاهرة شعبية في تاريخ فلسطين عام 1920، فعزلته سلطات الانتداب عن رئاسة بلدية القدس، فلم يكترث واستمر في نضاله الدؤوب، واشترك في الكثير من المظاهرات، كانت آخرها المظاهرة الكبيرة في يافا في أكتوبر 1933، حيث أصيب فيها بضربات هراوات قاسية من قبل الجنود الإنجليز ظل بعدها طريح الفراش لأيام، حتى فارق الحياة. تربى عبدالقادر منذ نعومة أظفاره في بيت امتلأ بالعلم والجهاد، فدرس القرآن الكريم في زاوية من زوايا القدس، ثم أنهى دراسته الأولية في مدرسة "روضة المعارف الابتدائية" بالقدس، بعدها التحق بمدرسة "صهيون" الإنجليزية، وأتم دراسته الثانوية بتفوق ثم التحق بعدها بكلية الآداب والعلوم في الجامعة الأمريكية في بيروت، ولكنه طُرد منها لنشاطه الوطني ورفضه لأساليب التبشير التي كانت مستشرية في الجامعة، فتوجه إلى الجامعة الأمريكيةبالقاهرة ودرس في قسم الكيمياء بها، وطيلة فترة دراسته ظل صامتًا، حتى أعلن في حفل التخريج أن الجامعة لعنة "بكل ما تبثه من أفكار وسموم في عقول الطالب"، وطالب الحكومة المصرية أن تغلقها مما حدا بالجامعة الأمريكية في اليوم التالي بسحب شهادته، الأمر الذي أدى إلى تظاهرة عظيمة قام بها رابطة أعضاء الطلبة التي أسسها الحسيني وترأسها أيضًا، وانتهى الأمر بقرار من حكومة إسماعيل صدقي بطرده من مصر فعاد أدراجه إلى القدس عام 1932 منتصرًا لكرامته وحاملًا لشهادته التي أرادوا حرمانه منها. كانت العودة بداية رحلة جهاد طويلة للحسيني رغم المحاولات الحثيثة من جانب الإدارة البريطانية لضمه تحت جناحها من خلال توليته عددًا من المناصب الرفيعة، فبدأ منذ عام 1936 يعمل على تدريب شبان فلسطينيين لينظموا وحدات مسلحة تدافع عن حقها وأرضها إذا ما تعرضتا للهجوم من الصهاينة، وفي العام نفسه قام بإلقاء قنبلة على منزل سكرتير عام حكومة فلسطين، تلتها قنبلة أخرى على المندوب السامي البريطاني، وتوّج نشاطه في هذا العام بعملية اغتيال الميجور سيكرست مدير بوليس القدس ومساعده، إضافة إلى اشتراكه مع أفراد الوحدات التي أسسها في مهاجمة القطارات الإنجليزية. في خريف عام 1938 جُرح عبدالقادر في إحدى المعارك، فأسعفه رفاقه في المستشفى الإنجليزي في الخليل، ثم نقلوه خفية إلى سوريا، ومنها إلى لبنان. ومن هناك نجح في الوصول إلى العراق بجواز سفر عراقي، وفي بغداد عمل مدرسًا للرياضيات في إحدى المدارس العسكرية، وأيّد ثورة رشيد الكيلاني في العراق عام 1941، وشارك مع رفاقه في قتال القوات البريطانية، فتم اعتقاله ورفاقه وقضوا في الأسر ثلاث سنوات حتى أفرجت الحكومة العراقية عنه في أواخر عام 1943، بعد تدخل الملك عبدالعزيز آل سعود، فتوجه إلى السعودية وأمضى فيها عامين بمرافقة أسرته. عاد الحسيني في يناير عام 1946 إلى القاهرة للعلاج، وأثناء وجوده في مصر عمد إلى وضع خطة لإعداد المقاومة الفلسطينية ضد عصابات الاحتلال الصهيوني، فراح ينظم عمليات التدريب والتسليح للمقاومين وأنشأ معسكرًا سريًا بالتعاون مع قوى وطنية مصرية ليبية مشتركة بالقرب من الحدود المصرية الليبية؛ وقام بالتواصل مع قائد الهيئة العربية العليا ومفتي فلسطين أمين الحسيني من أجل تمويل خطته وتسهيل حركة المقاومين على كل جبهات فلسطين، كما عمد كذلك إلى التنسيق والتواصل مع المشايخ والزعماء والقادة داخل الأراضي الفلسطينية، وأنشأ معملًا لإعداد المتفجرات، إضافة إلى إقامته محطة إذاعية في منطقة رام الله ومحطة لا سلكية في مقر القيادة في بيرزيت، وعمل شفرة اتصال تضمن سرية المعلومات وعدم انتقالها إلى الأعداء عبر المراسلات العادية، كما قام بتجنيد فريق مخابرات مهمته فقط جمع المعلومات والبيانات وخفايا وأسرار العدو الصهيوني لضربه في عقر داره، وتكوين فرق الثأر التي طالما ردعت وأرهبت اليهود وقللت من عمليات القتل الممنهجة التي أذاقوها للفلسطينيين. في أعقاب قرار التقسيم في 29 نوفمبر 1947 تولى الحسيني قيادة قطاع القدس، وعمل على وقف زحف القوى اليهودية، ومن ثم قام بعمليات هجومية على قطعان المستوطنين المتواجدين في محيط المدينة المقدسة منها معركة مقر القيادة العسكرية اليهودية في حي "سانهدريا"، بالإضافة إلى الهجوم المنظم على عدة مراكز يهودية كانت تعم بالأحياء العربية كمقر "ميقور حاييم"، وصولًا إلى استبساله في معركة "صوريف" في السادس عشر من يناير عام 1948 والتي ظفر فيها برقاب 50 يهوديًا كانوا مزودين بأحدث العتاد الحربية الثقيلة فاستولى على 12 مدفع برن والعديد من الذخيرة والبنادق، ومعركة بيت سوريك، ومعركة رام الله- اللطرون، إضافة إلى معركة النبي صموئيل، وكذلك الهجوم على مستعمرة النيفي يعقوب ومعركة بيت لحم الكبرى. ضرب الحسيني خلال معركة القسطل غير المتكافئة مثلًا في التضحية والحماسة والاندفاع، حيث غادر القدس إلى دمشق في أواخر مايو عام 1948 للاجتماع بقادة اللجنة العسكرية لفلسطين التابعة لجامعة الدول العربية، أملًا في الحصول على السلاح ليشد من عزم المقاومين على الاستمرار والاستبسال في القتال، وطالبته اللجنة بعدم افتعال تصرفات فردية، وأن جامعة الدول العربية قد أوكلت قضية فلسطين إلى لجنة عربية عسكرية عليا، وطالبوه بعدم الذهاب نحو القسطل، فرد عليهم بأنه سيذهب ويحتل المدينة وحده، فاقتحم القرية مع عدد من المجاهدين، لكنهم ما لبثوا أن وقعوا في طوق الصهاينة، فهبت نجدات كبيرة إلى لإنقاذ الحسيني ورفاقه وكان من بينها حراس الحرم القدسي الشريف، وتمكن رشيد عريقات في ساعات الظهيرة من السيطرة على الموقف وأمر باقتحام القرية وبعد ثلاث ساعات تمكنوا من الهجوم وطرد الصهاينة منها. استشهد عبدالقادر صبيحة الثامن من أبريل عام 1948 وقد بلغ الأربعين، حيث وجدت جثته قرب بيت من بيوت القرية، فنقل في اليوم التالي إلى القدس، ودفن بجانب ضريح والده في باب الحديد، ولما خرج الجميع لتشييع عبدالقادر الحسيني قامت قوات الاحتلال الصهيوني بارتكاب مجزرة أخرى، فعمدت إلى مهاجمة قرية دير ياسين، فلم يبق فيها شيء سوى ركام المنازل وأشلاء الفلسطينيين.