إعداد: أحمد صوان إشراف: سامح قاسم يظل الأمريكي آرثر ميللر أحد أكبر رموز الأدب والمسرح والسينما الأمريكية، فقد أعطى الحياة الأدبية لمدة 61 عاما، كان فيها من عمالقة المسرح الأمريكي المعاصر، وكان من كبار المدافعين عن الحرية الفكرية، منددًا بكل أشكال القمع، وكان من المنادين بفكرة مسرح في متناول الجمهور، كما كانت مواقفه اليسارية البارزة سببًا في تعقبه لسنوات من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي، ورغم يهوديته إلا أنه رفض الدولة الصهيونية، ولم تبرز يهوديته إلا في عملين فقط من إنتاجه الغزير. البداية: ولد ميللر لعائلة يهودية متوسطة الحال في مدينة نيويورك، وكان والده هاجر إلى الولاياتالمتحدة قبل الحرب العالمية الأولى، وكان مصمما وصاحب محل أزياء نسائية والذي دمر في فترة الكساد العظيم عام 1929، مما كان سببًا في تأثر آرثر لتنقله من حالة ميسورة إلى الفقر، ليواجه الفتى في الرابعة عشرة من عمره العالم الواقعي فعمل في العديد من المهن البسيطة، مثل عامل في كافتيريا وسائق شاحنة وعامل في مصنع إلى جانب دراسته في جامعة ميتشيجان، وتخصص في الصحافة ثم انتقل إلى الأدب الإنجليزي وانصب اهتمامه على الأدب اليوناني القديم وكتابات هنريك إبسن، وخلال عطلة الربيع عام 1936 كتب عمله الأول للاشتراك به في مسابقة، وحصل على درجة البكالوريوس في الأدب الإنجليزي عام 1938. الكاتب: بدأ ميللر بممارسة الكتابة الدرامية عام 1938 بعد تخرجه، وكان أول عمل له عُرض على مسرح في برودواي "الرجل الذي كان ينعم بكل الحظ"، وكانت أعماله الأولى تحمل أثر التمزق والضياع اللذان أحس بهما أيام الكساد، وكان متأثرا حينذاك بالأفكار الاشتراكية، وأعجب بالمسرح الثوري، وتتلمذ على أعمال النرويجي هنريك إبسن ورغب مثله في أن يبرز النظام الذي يقمع الإنسان؛ وبزغ نجمه بمسرحية "كلهم أبنائي" عام 1947 والتي تدور حول صاحب مصنع قام ببيع قطع غيار محركات طائرات معطوبة للجيش الأمريكي خلال الحرب العالمية الثانية، وحصدت جائزة دائرة نقاد الدراما بنيويورك وجائزتي توني؛ أما مسرحية "موت بائع متجول" والتي أصدرها عام 1949 فقد حصلت على جائزة بيرلتز وجائزتي توني، وكذلك جائزة دائرة نقاد الدراما بنيويورك. وكانت أول مسرحية تحصل على الجوائز الثلاث وقد عرضت هذه المسرحية نحو 700 مرة، وترجمت إلى أكثر من 20 لغة بعد شهور على ظهورها؛ ولم يكن من الغريب أن يُستبعد من الحياة الثقافية الأمريكية عقب الحملة "الأدبية" الشهيرة التي شنت عليه لاحقا في عام 1972 عندما كتب مسرحيته "خلق العالم وأعمال أخرى"، التي تدور فكرتها حول الصراع بين الخير والشر بطريقة كوميدية من خلال قصة آدم وحواء، وقد توقفت هذه المسرحية عن العرض بعد عشرين ليلة؛ إلا أن مسرحيته "الزجاج المكسور" التي عرضت في مسرح "بوث" في نيويورك أعادت إليه الاعتبار المسرحي، وكانت تلك المرة الأولى التي يقدم فيها عملا جديدا له على مسارح برودواي مدة 14 عاما كاملة. غزير الإنتاج: أنتج ميللر الكثير من الأعمال في جميع فروع الكتابة بدءًا من المسرح حتى كتابة المقال وكان أغزر إنتاجًا في المسرح وتنوعت كتاباته بين المسرحيات والروايات والقصص القصيرة والمقالات والشعر والنثر؛ وتحولت الكثير أعماله إلى أفلام سينيمائية أو حلقات تليفزيونية وكان أول تلك الأفلام عن مسرحيته "كلهم أبنائي"، وعرض الفيلم عام 1948 بالأبيض والأسود ؛ كما تم تصوير عدة أفلام عن مسرحيته "المحنة" كان أولها عام 1959 وكان إنتاجًا تليفزيونيًا بالأبيض والأسود وآخرها فكان عام 1996 والذي كتب ميللر له السيناريو؛ أما روايته الوحيدة "التركيز" فقد تم تصويرها مرتين، الأولى تليفزيونيًا عام 1966 وأخرجها آلان جيبسون، والثانية عام 2001 وأخرجها نيل سلافين. اليساري: اشتهر ميللر بميوله اليسارية، ويعتقد البعض أن زواجه مارلين مونرو كان للتغطية على نشاطاته الشيوعية وقد تابع مكتب التحقيقات الفيدرالي نشاطه من الأربعينيات وحتى عام 1956، وحين أفرجت الأخيرة عن وثائق تخصه بعد موته قالت إنه لم يكن منضمًا إلى الشيوعيين بل كان منشقًا عنهم؛ وكان لديه موقف معاد من السياسة الأمريكية، ووقف ضد الحرب على فيتنام وكانت له نشاطات في مجال حقوق الإنسان؛ كما أنه لم يكن يهوديًا متدينًا في بداية حياته، واعترف بأنه أخطأ في تصنيف دولة إسرائيل ولم يستطع التمييز بين الدولة اليهودية ودولة اليهود، فالدولة اليهودية، كما تصورها، لا تنتمي إلى التاريخ لأنها خرجت من صفحات الكتب المقدسة، أما دولة اليهود فتخضع للقوانين التاريخية التي تنطبق على الظواهر المماثلة. وحينما راجع حساباته، صنف الدولة الصهيونية التصنيف الصحيح، وسجل احتجاجه عليها؛ كما أنه فكر في رفض جائزة القدس، ولكنه قبِلها بعدما أرسل شريط فيديو ينتقد فيه سياسة الاستيطان وقتل المدنيين قائلًا: "إن قمع الفلسطينيين والمستوطنات في الضفة الغربية خيانة لمثل التوراة العادلة التي ألهمت تأسيس دولة إسرائيل"، ودعا إلى قيام دولة فلسطينية وقال "إن ما بقي من الحلم بمجتمع تقدمي مسالم في 1948 هو الضد تمامًا.. مجتمع مسلح يائس على خلاف مع جيرانه والعالم"، ولم تظهر يهوديته في كتاباته عدا مسرحية "بعد السقوط" التي تناولت الهولوكوست ومعاداة السامية، وروايته الوحيدة "التركيز". الختام: توفي آرثر ميللر عن عمر ناهز التاسعة والثمانين بسكتة قلبية، بعد معاناة مع مرض السرطان وأمراض القلب والرئتين في مساء العاشر من فبراير عام 2005، في الذكرى السادسة والخمسين للعرض الأول لمسرحية "موت بائع متجول" في برودواي.