كان يوم 23 يوليو 1970 فى المساء وجلست كالعادة أمام التليفزيون مع أولادى نستمع لخطاب الرئيس الذى أعلن فيه الانتهاء من بناء السد العالى، وهنأ الشعب ببناء السد.. وكان آخر خطاب له فى عيد الثورة. مكثنا فى القاهرة بضعة أيام، وقال لى الرئيس: "لا داعى للبقاء هنا فى الحر، اذهبى والأولاد للإسكندرية.. وإن شاء الله سأحضر بعد أيام قليلة". فى أول سبتمبر سافر الرئيس إلى ليبيا لحضور احتفالات الثورة، وكان أول عيد لثورة ليبيا.. وبقى هناك أيامًا قليلة. وحضرت للقاهرة والأولاد لنكون فى استقباله ثم رجعنا للإسكندرية. فى اليوم التالى خرج الرئيس فى المساء وذهب للقيادة كالعادة ورجع فى ساعة متأخرة. فى يوم الثلاثاء.. وكان الرئيس سيغادر القاهرة فى المساء بالقطار إلى الإسكندرية ويبيت فيها، ثم يذهب بالقطار أيضًا إلى مرسى مطروح فى اليوم التالى.. وقال إنه سيزور القوات المسلحة هناك وسيرافقه وزير الحربية وحسين الشافعى، وسيحضر الرئيس الليبى معمر القذافى فى زيارة ليوم واحد. أثناء تناولنا الغداء قال لي: هل تحضرين معي؟ قلت: إنه يسرنى أن أذهب معك لمرسى مطروح.. وكنت لم أذهب إليها منذ 1953، وقت أن رافقته مدة النقاهة بعد أن أجريت له عملية الزائدة. غادرنا القاهرة ومعنا عبدالحكيم، ونحن فى القطار قال الرئيس: لم أر عبدالحميد منذ حوالى شهرين.. وقت الإجازة كنت فى موسكو، وعندما رجعت كان عبدالحميد فى رحلة مع الكلية فى البحر، وغدًا إن شاء الله سأغادر إسكندرية وضحك.. وكان وزير الحربية جالسًا معنا فى الصالون. بعد وصولنا للمعمورة.. حوالى الساعة التاسعة مساء طلبنى عبدالحميد بالتليفون وقال: لقد قالوا لى أن أخرج وأحضر للبيت.. يا ماما أنا لا أريد أن أخرج بمفردى فى غير وقت الخروج، إنى أشعر بإحراج ولا أريد الحضور للبيت الآن.. وسألني: هل طلبتم خروجي؟ وكان متضايقًا وهو يتحدث. ودخل الرئيس أثناء الحديث فقلت له: عبدالحميد يتحدث.. فأخذ السماعة وحياه بحرارة وقال له: وحشتنى جدًا يا ميدو.. كما تريد.. افعل ما يريحك.. فقلت: فليحضر لنراه.. فقال لى الرئيس: إنه جدع حساس، وضحك وقال: وزير الحربية طلب خروجه بعد الحديث فى القطار، ثم دخل حجرته. بعد وقت قصير.. وكان يتحدث بالتليفون وكنت فى الصالة ورأيت عبدالحميد أمامى. استقبلته بحرارة ودخلت معه للرئيس فى الحجرة فصافحه وقبله ثم قال له وهو يضحك: إنك تدخن.. وسأله عن عدد السجائر التى يدخنها، وقال له: لا تدخن كثيرًا حتى لا تضر بك، وبعدين لما تكبر يقول لك الأطباء لا تدخن.. ثم استمر فى الحديث بالتليفون. وكان الذى يتحدث معه هيكل.. وحكى له وهو يضحك عن عبدالحميد، وكيف أنه شم رائحة السجائر وهو يقبله، وكان الرئيس لا يدخن ولو سيجارة واحدة منذ أن كان فى الاتحاد السوفيتى فى شهر يوليو 1968، وطلب منه الأطباء عدم التدخين. جلسنا نتناول العشاء وقال عبدالحميد: لقد رفضت الخروج، وبعد شوية قال لى الضابط النوبتجي: إنك يجب أن تخرج الآن فلدينا أمر بخروجك، فسأله الرئيس ومتى سترجع الكلية؟ قال: إنهم قالوا لى أرجع الكلية الساعة العاشرة صباح الغد، لكن يا بابا أريد أن أرجع الليلة حتى أكون مع الطلبة فى الصباح.. فقال له الرئيس: اذهب يا بنى كما تريد، وصافحه ودخل حجرته.. وغادر عبدالحميد البيت للكلية بعد تناوله العشاء معنا.. وكانت آخر مرة رأى فيها الرئيس ابنه الطالب فى الكلية البحرية فى السنة الثالثة. فى اليوم التالى.. وكان يوم الأربعاء قبل الظهر، غادرنا الإسكندرية بالقطار لمرسى مطروح، وكان وزير الحربية وحسين الشافعى فى القطار معنا. قال وزير الحربية للرئيس: لقد طلبت خروج عبدالحميد من الكلية وذهابه للبيت لتراه، وبعد وقت سألت عنه إذا كان غادر الكلية، فقالوا لى إنه رفض الخروج فقلت: فليخرج بالأمر.. وشكر وأثنى على عبدالحميد، وقال: إنه طالب مثالى فى تهذيبه وأخلاقه.. إنه غير معقول ويمدحه المدرسون فى الكلية ويحافظ على واجباته.. فشكره الرئيس. وصلنا مرسى مطروح فى المساء.. فى اليوم التالى حضر الرئيس الليبى معمر القذافى ومعه عدد من أعضاء مجلس الثورة، ومكثوا يوما واحدا تناولوا فيه الغداء مع الرئيس فى البيت فى الدور الأول، وتناولت الغداء فى الدور الثانى مع عبدالحكيم، وقبل خروج الرئيس الليبى ومرافقيه طلبنى الرئيس لمصافحتهم. مكثنا ثلاثة أيام زار فيها الرئيس القوات المسلحة فى مرسى مطروح، ويوم السبت غادرنا بالقطار للإسكندرية. بقينا فى إسكندرية حتى يوم الاثنين 21 سبتمبر.. لم أره يستريح، وكل وقته كان مشغولا بمتابعة أخبار الاعتداء على الفلسطينيين فى الأردن. وأمضى يومى الأحد والاثنين يمهد لمؤتمر قمة عربى، ويطلب الرؤساء والملوك العرب بالتليفون ويتحدث معهم، وقال لي: سنغادر الإسكندرية فى المساء. وكان فى الصباح - وهو يوم الاثنين - قد علم بوفاة زوجة خاله فقال: سأذهب لتعزية أولاد خالى ونحن فى طريقنا للقاهرة، إذ يقيمون فى إسكندرية. مكثنا عندهم نصف ساعة.. وفى الساعة السابعة مساء غادرنا إسكندرية للقاهرة. اليوم التالى، الثلاثاء، خرج فى الصباح ورجع قبل تناول الغداء، وفى المساء خرج ورجع بعد تناول العشاء مع الضيوف فى قصر القبة. يوم الأربعاء خرج فى الصباح وتناول الغداء مع الضيوف وظل خارج البيت، وفى المساء خرجت لزيارة إحدى قريباتى وتسكن فى الدقى.. دعوتها أن تحضر معى للبيت لتشاهد فيلمًا فى السينما. عندما رجعت إلى البيت وجدت الرئيس فى حجرته.. دخلت له فوجدته يستعد للخروج.. تبادلنا التحية وقلت له: لقد كنت عند قريبتى وأحضرتها معى لنشاهد فيلمًا فقال: أحسن فلتتسلى معها، ثم أضاف: سأذهب وأبقى فى الهيلتون مع الضيوف حتى ينتهى المؤتمر. اللحظات الأخيرة لبث الرئيس فى الهيلتون.. وكنت أتتبع الأخبار فى الجرائد والإذاعة والتيلفزيون. وفى يوم الأحد، وكنت جالسة أمام التليفزيون، وكانت نشرة الأخبار الساعة التاسعة مساء تقرأها المذيعة سميرة الكيلانى وقالت: لقد تم الوفاق واختتم المؤتمر أعماله، وغادر الضيوف من الملوك والرؤساء القاهرة. ظل الرئيس يتحدث فى التليفون حتى الساعة الثانية عشرة ثم قال: سأنام مبكرًا، وغدا سأذهب فى الصباح لتوديع الملك فيصل وأمير الكويت.. وأطفأ النور ونام. فى الصباح استيقظ الرئيس قبل الثامنة، وحضر الطبيب الخاص، وكنت قد قمت وخرجت من الحجرة ودخلت حجرتى، استعدادًا للدخول للرئيس فى حجرته لأتناول معه الإفطار، فدخل إلىّ فى الحجرة لتحيتى قبل خروجه، وقال: سأذهب إلى المطار.. ووجدت الإفطار قد جهز فى حجرته ولم يتناول شيئًا، وعلمت أنه تناول فاكهة فقط. رجع الرئيس فى الساعة الثانية عشرة وحضر الطبيب الخاص، وكنت سأدخل للرئيس، ووجدت الدكتور يجرى له فحص رسم قلب، فرجعت ولم أدخل الحجرة، ثم بعد ذلك خرج الرئيس مرة ثانية لتوديع أمير الكويت. رجع الرئيس من المطار فى الساعة الثالثة بعد الظهر، وحضر الدكتور الصاوى حبيب فقال له الرئيس: ادخل يا صاوى فدخل، وقمت كعادتى عند دخول الأطباء إلى الحجرة وخرجت إلى المكتب، فقال الدكتور: نريد عصيرًا.. فذهبت وأحضرت عصير برتقال وليمون جهزته بنفسى بسرعة وحملته ودخلت الحجرة.. وقلت: هذا برتقال محفوظ وليمون طازج، فقال: آخذ برتقال، وشرب الكوب وأنا واقفة وقال لي: متشكر. خرجت من الحجرة وجلست فى حجرة المكتب، وبعد دقائق حضر طبيب اختصاصى.. منصور فايز فقلت له بالحرف: أنت جيت ليه يا دكتور دلوقتي؟ «أنا لما بشوفك بعرف إن الرئيس تعبان وبكون مشغولة».. فرد: أنا معتاد أن أحضر كل أسبوع فى يوم الاثنين، واليوم هو الاثنين.. ودخل. بقيت جالسة فى حجرة المكتب وسمعت الرئيس يتحدث، وسمعت الراديو.. نشرة الأخبار فى إذاعة لندن. قالت لى منى ابنتي: بابا بخير والحمد لله.. تعالى نخرج من هنا. وخرجت معها وجلسنا على الترابيزة فى حجرة السفرة، وبعد دقائق جاء إلى الطبيب الاختصاصى وقال: الرئيس الآن تحسن وإذا أردتِ الدخول له فلتدخلى.. وأخذ يدخن سيجارة فقلت له: لا داعى حتى لا يشعر بأنى قلقة. بعد لحظات جاء الدكتور الصاوى يجرى مسرعًا قائلا: تعال يا دكتور.. ودخل الدكتور يجرى، ودخلت لحجرة المكتب ومنعتنى منى من الدخول لوالدها وقالت: إن بابا بخير لا تخافى يا ماما، وأجلستنى فى حجرة المكتب وجلست معى. وبعد فترة حضر دكتور آخر ثم ثالث.. فدخلت عنده ووجدت الأطباء بجانبه يحاولون علاجه.. وكنت أبكى وخرجت حتى لا يرانى الرئيس وأنا أبكى، ثم دخلت له مرة ثانية وازداد بكائى وخرجت وجلست فى حجرة المكتب، ودخل عدد من السكرتارية، ثم حضر حسين الشافعى ومحمد حسنين هيكل.. وكل واحد يدخل الحجرة ولا يخرج منها.. وكنت أبكى. أصرت منى على أن أخرج إلى الصالة فكنت أمشى وأقول: جمال جمال.. ووجدت الكل يخرج وينزل السلالم فدخلت مسرعة.. رأيت حسين الشافعى يخرج من الحجرة يبكى، ويقول: مش معقول يا ريس. وحضر خالد وعبدالحكيم فى هذه اللحظة، ولم يكونا فى البيت ولا يعرفان شيئًا، ودخلا مسرعين، وحضرت هدى وكانت لا تعلم بما جرى بعد ذهابها لبيتها. دخلت للرئيس ووقفت بجواره أقبله وأبكيه، ثم خرجت من الحجرة لأستبدل ملابسى وألبس ملابس الحداد. ونزلت مسرعة إلى الدور الأول ووجدت الكل.. الأطباء والسكرتارية وهيكل وحسين الشافعى وأنور السادات حضر.. والكل واقف فى الصالون. قلت: لقد عشت ثمانية عشر عامًا لم تهزنى رئاسة الجمهورية ولا زوجة رئيس الجمهورية وسوف لا أطلب منكم أى شيء أبدًا.. أريد أن يجهز لى مكان بجوار الرئيس لأكون بجانبه.. وكل ما أرجوه أن أرقد بجواره.