موعد أول إجازة رسمية بعد عيد الأضحى المبارك .. تعرف عليها    شيخ الأزهر يعزي أسرة البطل خالد محمد شوقي: ضرب أروع الأمثلة في التضحية    مصدر بالسكة الحديد: إحالة شاب اقتلع إنارة قطار روسي على خط الصعيد للمحاكمة العسكرية    أمين عام الناتو: سنبني تحالفًا أقوى وأكثر عدالة وفتكًا لمواجهة التهديدات المتصاعدة    اتحاد الكرة يعلن.. قواعد الانتقالات ومواعيد القيد بالموسم الجديد (صور)    مدرب منتخب بولندا يكشف تفاصيل أزمة ليفاندوفسكي    تصفيات كأس العالم.. تشكيل كرواتيا والتشيك الرسمي في مواجهة الليلة    رئيس بعثة الحج: تفويج حجاج القرعة غير المتعجلين من مشعر منى لمكة المكرمة    قرار قضائي بشأن واقعة مصرع طفلة غرقًا داخل ترعة مغطاة في المنيا    من مصر إلى اليونان.. أمينة خليل تواصل احتفالات زفافها | شاهد    خبير: «المتحف المصرى الكبير» إنجاز عالمى يضم 100 ألف قطعة أثرية    "الجزار" يتفقد مستشفى عين شمس العام ويوجه بتوسيع تشغيل العيادات التخصصية    البابا تواضروس يوجه نصائح طبية لطلاب الثانوية العامة لاجتياز الامتحانات    إصابة 5 أشخاص إثر انقلاب سيارة ميني باص على صحراوي قنا    الزراعة: ذبح 450 أضحية لمؤسسات المجتمع المدني في غرب النوبارية    بعد صراع مع السرطان.. وفاة أدهم صالح لاعب سموحة للتنس    لتجنب تراكم المديونيات .. ادفع فاتورة الكهرباء أونلاين بدءا من غد 10 يونيو    وزير الصحة يتلقى تقريرا عن متابعة تنفيذ خطة التأمين الطبي للساحل الشمالي خلال الإجازات    محمد البهنساوي يكتب: حج استثنائي فماذا بعد ؟    بطولته ستبقى في سجل الشجعان.. محافظ الدقهلية في عزاء سائق حريق العاشر من رمضان    العثور على 10 جثث لشباب هجرة غير شرعية غرب مطروح    دوناروما يقود منتخب إيطاليا ضد مولدوفا في تصفيات كأس العالم    أمين عام الناتو: سنبني تحالفًا أقوى وأكثر عدالة وفتكًا لمواجهة التهديدات المتصاعدة    إلهام شاهين تتألق وسط أجواء ساحرة في الساحل الشمالي | صور    استعراضات فرقة الطفل تخطف الأنظار على المسرح الروماني بدمياط الجديدة    خبير صيني يحذر من تداعيات استمرار التوترات التجارية والرسوم الجمركية المتبادلة بين بكين وواشنطن    روشتة طبية من القومي للبحوث لمريض السكري في رحلة الحج    استطلاع رأي: 61؜ % من الإسرائيليين يدعمون صفقة مع حماس تنهي الحرب    مظهر شاهين عن إحياء أحمد سعد حفلًا غنائيًا: "مؤلم عودة البعض عن توبتهم"    بأنشطة في الأسمرات والخيالة.. قصور الثقافة تواصل برنامج فرحة العيد في المناطق الجديدة الآمنة    «سرايا القدس» تعلن الاستيلاء على مسيّرة للاحتلال في شمال غزة    إصابة 20 شخصا بحالة تسمم نتيجة تناول وجبة بأحد أفراح الدقهلية    «التعاون الخليجي» يبحث مع «منظمة الدول الأمريكية» تعزيز التعاون الاقتصادي والاستثماري    هل تنتهي مناسك الحج في آخر أيام عيد الأضحى؟    الصحة: فحص 3 ملايين و251 ألف سيدة ضمن المبادرة الرئاسية ل «العناية بصحة الأم والجنين»    حارس إسبانيول على أعتاب برشلونة.. وشتيجن في طريقه للخروج    هل الموز على الريق يرفع السكري؟    وكيل الشباب والرياضة بالقليوبية يشهد احتفالات مبادرة «العيد أحلى»    حزب العدل: انتهينا من قائمة مرشحينا للفردي بانتخابات مجلس الشيوخ    ما حكم صيام الإثنين والخميس إذا وافقا أحد أيام التشريق؟.. عالم أزهري يوضح    آخر موعد لتقديم الأضحية.. وسبب تسمية أيام التشريق    موعد إجازة رأس السنة الهجرية.. تعرف على خريطة الإجازات حتى نهاية 2025    من الشهر المقبل.. تفاصيل زيادة الأجور للموطفين في الحكومة    خاص| محامي المؤلفين والملحنين: استغلال "الليلة الكبيرة" في تقديم تريزيجيه غير قانوني    حقبة تشابي ألونسو.. ريال مدريد يبدأ استعداداته لكأس العالم للأندية 2025    دار الإفتاء تنصح شخص يعاني من الكسل في العبادة    ارتفاع كميات القمح الموردة لصوامع وشون الشرقية    التحالف الوطنى بالقليوبية يوزع أكثر من 2000 طقم ملابس عيد على الأطفال والأسر    الأربعاء.. عرض "رفرفة" ضمن التجارب النوعية على مسرح قصر ثقافة الأنفوشي    الجامعات المصرية تتألق رياضيا.. حصد 11 ميدالية ببطولة العالم للسباحة.. نتائج مميزة في الدورة العربية الثالثة للألعاب الشاطئية.. وانطلاق أول دوري للرياضات الإلكترونية    ترامب يتعثر على درج الطائرة الرئاسية.. وروبيو يتبع خطاه    د.عبد الراضي رضوان يكتب : ل نحيا بالوعي "13 " .. حقيقة الموت بين الفلسفة والروحانية الإسلامية    دعاء الخروج من مكة.. أفضل كلمات يقولها الحاج في وداع الكعبة    الصحة: فحص أكثر من 11 مليون مواطن بمبادرة الكشف المبكر عن السرطان    أسعار الخضروات والفاكهة في سوق العبور اليوم    بعد صعود سعر الفراخ البيضاء.. أسعار الدواجن اليوم الاثنين 9-6-2025 صباحًا للمستهلك    استعدادا لامتحان الثانوية 2025.. جدول الاختبار لطلبة النظام الجديد    الخميس المقبل.. ستاد السلام يستضيف مباراتي الختام في كأس الرابطة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حازم حسين يكتب: الحج الشيعي إلى مصر.. رحلة في عقل إيران وحلم وراثة الفاطميين
نشر في البوابة يوم 27 - 08 - 2015

الاستهلاك والابتذال السيّار آفة التعاطي مع كثير من الموضوعات ذات الصيغة الآنية والتداول اليومي، والتي تفرض طبيعة الراهن سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيا، الوقوع في دائرتها بشكل متّصل ودائم وموّار، رغم أهمية كثير من هذه الموضوعات والحاجة إلى الاقتراب الواعي منها، وتقديم طروحات ومقاربات ناضجة لها، ومؤسّسة على رؤية بصيرة وكاشفة، وعلى طرح علمي ومنهجي، يتوسّل بالثابت من الحدث، والرصين من المفاهيم والمعالجات، دون تفريط أو إفراط، متجنّبًا إغفال المرجعيات التاريخية والسياقات الزمكانية لاندلاع هذه القضايا وحركتها في المجال العام، وناجيًا من حبائل إقامة بنيان التاريخ على أسس الحاضر، أو الانفعال العاطفي الموجّه وفق عناوين عريضة وميراث قاسٍ أنجز موعدته واستنفد رحلته وأغلق قوس الزمن خلفه، ربما تكون المقدمة طويلة نوعًا ما، ولكن كثيرًا من الشجون والأفكار أثارها هذا العنوان الجيد، الذي تدور عليه المطابع الآن، منذ مطالعة غلافه مرورًا بتوطئته وفصوله ومباحثه، إذ ربما لمرة أولى يمكنك أن تطالع حالة حوار وجدل عقلي فاعلة وحيّة مع عنوان عريض، يتداخل فيه السياسي بالديني بالتاريخي، وتلتبس عبره المفاهيم والاصطلاحات والأطر النظرية والعملية، في واحدة من أكثر القضايا استهلاكًا للوقت والطاقة والحبر والأوراق في راهن الثقافة العربية والإسلامية، وتاريخها البعيد والقريب.
العنوان الذي نقف بصدده، ذاك الذي تستعد دار رهف للنشر والتوزيع لطرحه في الأسواق خلال الأسابيع، وربما الأيام المقبلة، بتوقيع الكاتب الصحفي الشاب محمد شعت، وبعنوان ملفت ولمّاح، يومئ أكثر مما يُصرِّح، ويفضح أكثر مما يستر، فانطلاقًا من جملة "الحج الشيعي إلى مصر"، يؤسّس محمد شعت لمبحثه ذي الطابع التوثيقي والتأريخي والتحليلي أيضًا، ويفتح أقواسًا من الاستفسارات ونقاط الجدل والأخذ والردّ، والتي يمكن أن نقف مليًّا لدى كل نقطة منها، فمن العتبة الدلالية الأولى والمدخل الإجباري لتلقّي أطروحة "شعت"، تشتعل كثير من الأفكار والإشارات اللغوية والدينية والسياسية، ولا يقف العنوان عند حدود الدوال والمدلولات اللغوية المباشرة، رغم أنه يأتي عاريًا من المجاز والبنى الإشارية، إذ يؤسّس بلاغته الخاصة والكاشفة وعميقة الأثر عبر التوسّل بالوضوح في تصوراته القصوى، الحج الشيعي إلى مصر، بما يحمله من إشارات إلى حالة الاستقطاب السياسي بين مركز التشيّع وقيادته الروحية في "قم" بإيران، ومصر كمرجع أبرز للعالم الإسلامي السني، وفي الوقت ذاته يخرج العنوان بمفردة الحج من إطارها المعجمي المباشر كمرادف للقصد أو السفر أو الزيارة، إلى دائرة من الفرز والتقييم العقدي، اتكاء على الاستدعاء الذهني المباشر للدلالة الدينية لهذه المفردة، بما يوفر للكاتب من خطوته الأولى، وقبل عبور الغلاف إلى المتن، فرصة لإصدار حكم عقدي وديني، عبر مفارقة النقد والنقض للتحركات السياسية المغلّفة بأطر دينية، وأيضًا اتخاذ مقاصد دينية وقبلات روحية غير ما أسّس له الإسلام لأتباعه على اختلاف أفكارهم ومذاهبهم، لتنتقل من العنوان إلى المُعَنوَن، حاملًا إضاءة إيضاحية أولى على ما يمكن أن يعمل الكتاب عليه في صفحاته التي تقارب المئة والسبعين من القطع المتوسط، وعبر فصوله - أو عناوينه الفرعية - التي تصل إلى ستة عشر عنوانًا خلاف التوطئة.
في مدخله الأول، عبر توطئته القصيرة والمركّزة، يستكمل محمد شعت كشف أوراقه التي هتك العنوان ستر حصّة منها، إذ يستعرض في مقاطع قصيرة ومتتابعة أطر العلاقة بين الدولة المصرية والشيعة، وتبدّلاتها وفق إيقاع الأحداث وسياقات الدراما، رابطًا في كل هذه التصوّرات بين التشيّع وإيران، إلى حدّ الاستعاضة عن كل منهما بالآخر في الإحالة اللغوية، مكرّسًا لحالة التماهي بين العقيدة والمعتقِد، وبين الديني والسياسي، ومحلّلًا لحركة التشيّع والمتشيّعين في المجال العام في مصر، قياسًا إلى الظرف السياسي والاجتماعي، ما بين فترات الاستقرار السياسي وتماسك النظام الحاكم، والأحداث التي شهدتها ثورة الخامس والعشرين من يناير وما تبعها من انفلات أمني وسيولة على أصعدة عدّة، ومبشّرًا ببعض عطاياه المنتظرة في ثنايا الكتاب، فيما يخص تفكيك دوائر العمل الشيعية وكشف أسرارهم الحركية وميكانيزمات عملهم في الفضاء المصري عبر حزمة من المشروعات ذات الصيغة الاقتصادية، ومضيئًا في الوقت ذاته على المفصليّات والركائز الأكثر حضورًا وفعلًا في ساحة الصراع المشتعلة على خلفيات هويّاتية وأديولوجية، مختتمًا فاتحة قوله بخلخلة لجدران الكسل العقلي التي نرتكن إليها - تأسيسًا على مناعتنا الدينية والمذهبية - إذ يؤكّد في فقرته الأخيرة، بالدليل والتصريحات الموثّقة لقادة الشيعة في مصر، أن الموجة الفارسية قد بلّلت أعمدة الأزهر الشريف.
من هذا المنطلق ذى المبنى السياسي والعقدي، يُبحر محمد شعت في فصول كتابه بمنهج استقصائي وتثبّتي يعتمر قبعة التحقيق الصحفي بشموله وطرحه الوافي، ويفترش بساط التأسيس العلمي الذي لا يُغفل السبب في تقصّيه للنتيجة، ولا يفصل بين الظواهر والبواطن، ولا ينشغل عن التشخيص والتسبيب بالشرح والتوصيف، فيفرد فصلًا طويلًا لفض الاشتباك الذي قد يعقد البعض عُراه وخيوطه فيما يخص حيز الوجود والحركة للتشيّع، كفكرة ومذهب ومعتقد، في الفضاء المصري، وحيّزه وحركته كانعكاس سياسي وسلطوي ارتبط قديمًا بتوجّه استعماري خط الفاطميون سطوره الأولى، ويعاود الآن مساءلة هذه الغابة مرة أخرى على أرضية من الطموحات الإمبراطورية التي تحرك الدولة الفارسية، وبإيجاز بليغ وغير مُخلّ يقدّم الكاتب رؤية بانورامية لرحلة التشيّع في قماشة المجتمع المصري وخارطة وعيه وذاكرته، بدءًا من مقدم جوهر الصقلي بسيف العبيديين وورد أهل البيت، وحتى براجماتية جماعة حسن البنا "الإخوان المسلمين" في التعامل مع الملف الشيعي/ الإيراني، بين مرحلتي المعارضة واعتلاء كرسي الحكم في مصر، متتبّعًا توترات الدراما التي صاحبت عمل الشيعة ومحاولاتهم لانتزاع موطئ قدم إثر أخرى في بنية الوعي المصري وبين تياراته الفكرية والمعرفية العارمة، وراصدًا لعاديات الأيام وتبدّلاتها ما بين قبول ورفض، ووفاق مع النظام وشقاق، دون إغفال لصغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، بما يوفر للمطّلع على هذا المبحث المهم صورة فسيفسائية المبنى تتعاضد فيها نِتَف المواقف والأفكار والانحيازات والتصريحات، لتكشف عن طبيعة الماكينة العقلية التي تحرّك الشيعة المصريين، وانعكاسات تحركاتهم في عيون الفرقاء والحلفاء والدولة ومؤسساتها.
في فصلين متتابعين، وأحسبهما مهمّين بدرجة كبيرة، يدخل كاتب "الحج الشيعي إلى مصر" مساحة من التحقيق والكشف لمناط الخلاف بين المحمول الفكري للشيعة وجانب واسع من جوانب العقلية المصرية، عبر رصد المآخذ الفكرية والفقهية والشرعية للسلفين بشأن المذهب الشيعي ومرجعياته وطروحاته الضاربة في مفصليات الفكر الديني وتاريخه البشري، ومن خلال عدد من قادة الدعوة السلفية ووجهاء الدعاة السلفيين، يُثبت محمد شعت حصيلة ضخمة من النواقص والهنات التي تخالط العقل الشيعي وتضربه في صميم معتقده، ولكنه – وفيما يبدو أنه ابتغاء لإقامة معمار مناظرة حية وفاعلة وجدلية، وإحساس بسياسية الخلاف أكثر من دينيته – يُورد باقة واسعة من ردود أقطاب الشيعة الحركيين والفكريين في مصر، وبين المآخذ الفقهية والشرعية المتبادلة، والمآخذ السياسية والوطنية أيضًا، واتهامات الوكالة والعمل لصالح قوى وإدارات سياسية خارجية، سواء كانت إيران أو المملكة العربية السعودية، يُسجّل "شعت" برصده المتجرّد، ودون تدخّل أو تقييم، تورّط كل الأطراف وإدانتها، والبون الشاسع الذي يفصل بينها جميعًا وبين التحرّك وفق نوازع دينية وقيمية خالصة وصافية، ليُتبع فصليه هذين بفصلين آخرين فاصلين ودامغين في الاتجاه ذاته، مستعرضًا في أولهما سيناريو التقارب الإخواني الشيعي بدءًا من حسن البنا وحتى محمد مرسي، ومثنّيًا بانعكاسات هذا التقارب في المرآة العربية المحيطة، لتخرج من هذه الخلطة مُحكمة المقادير في الفصلين، بضوء كاشف يُفضّض رمادية التأسيس الفكري والمرجعيات الفقهية والروحية والحركية للجماعة، من حسن البنا وحتى مهدي عاكف، مرورًا بعمر التلمساني وسيد قطب، ويلقي مزيدًا من الكرات ومعها علامات الاستفهام في ملعب التحالفات السياسية العملية والزيارات المتبادلة بين القاهرة وطهران والحصول على دعم سياسي ومالي من الدولة الفارسية بغية العمل على تثبيت أركان الحكم الإخواني في مصر، والذي اعتبرته مراجع "قم" وآيات الله انتصارًا للثورة الإسلامية الإيرانية، حسب تصريحات عديدة لقيادات سياسية وروحية إيرانية، رغم ما قد يبدو نظريًّا من تعارض وتناقض كبيرين بين الجماعة ذات التأسيس السني المنزّه للرسالة والرسول وصحابته، والدولة ذات المرجعية الفكرية التي تنحاز إلى طرح يقدح في عصمة الرسالة وفي اصطفاء الرسول وفي صفاء عقيدة صحبه وتابعيه.
جانب آخر مهم من جوانب "الحج الشيعي إلى مصر"، يلتفت إليه محمد شعت في 6 فصول متتابعة من كتابه، إذ يقترب بشكل أكبر، ويوغل بعمق وتؤدة في العقل الشيعي، في مستوياته الداخلية والخارجية، فاحصًا لإستراتيجيات التحرك الشيعي لتوطيد دعائمه وتثبيت خطاه، وموثّقًا لها، ومحلّلًا لأماراتها ودلالاتها، عبر رصد واعٍ لتفاصيل التسويق للمذهب وحملته في الفضاءات السنية المجاورة والمناوئة للدولة الفارسية، وعلى رأسها مصر بالطبع، وفي هذا يستجلي "شعت" جوانب الخطة العملية والديناميكية للترويج للتشيّع وتوطينه وفتح نوافذ لاستقباله في العقلية العربية السنية، بدءًا من مشاركة العامة لاحتفالاتهم الدينية ذات المرجعية الشيعية، والعمل على دعمها وتقويتها، ثمّ التخطيط لإعاشة الأفكار الشيعية وتربيتها بالتداول والاعتياد، وهنا كانت الوسيلة الأبرز لاقتناص هذه الغاية عبر المنصات الإعلامية والتعليمية، التي يتتبعها الكاتب ويرصد منشأها وتطورها، سواء في عالم الصحافة وقنوات التليفزيون بأعدادها المتزايدة يومًا بعد يوم، أو على صعيد الجمعيات الأهلية والمؤسسات التعليمية والمدارس والرحلات العلمية للطلبة المصريين في المراجع والحوزات الشيعية، ولا يكتفي برصد هذه الكيانات والاقتراب من عناوينها ومبانيها، وإنما يوغل بشكل عالم في معانيها وظلالها، فيُشرح إستراتيجية العمل الإعلامي لدى هذه المؤسسات، وآلية صياغة الرسالة التواصلية وخطط التأثير النفسي والقيمي في المتلقين المستهدفين، وما تنتهجه هذه المنصات الإعلامية من برامج وتعتمده من أفكار ولغة خطاب وتقنيات اتصال، ثمّ يتتبع رحلة إيران لصناعة مرجعيات روحية شيعية بنكهة مصرية وصياغة مطبوعة ببصمة آيات الله ومراجع قم والنجف الأشرف، فيوثّق لرحلات الدراسة والإعداد الديني والفكري لعدد من قيادات وعناصر الشيعة في مصر، ويقدّم في الأخير وعبر هذه الفصول الستة تصوّرًا ضافيًا وواسع التناول والكشف للعقل الشيعي/ الإيراني، وما أحدثه من أثر طيلة السنوات الماضية، وما اعتمده من أطر وبرامج للتفاعل والتأثير في الفضاء العربي السنيّ.
الجانب الأبرز في كتاب محمد شعت - حسبما أرى من وجهة نظري - والطرح الأكثر أصالة وحفرًا في تربة الكشف والتقعيد والتحليل الرصين، وتقديم قراءات مبتكرة وفاحصة، عطفًا على مقدّمات وإشارات لا تخلو من الدلالة وبعيد الغاية، ما قدّمه في فصوله الأربعة المعنونة على الترتيب: مشروعات الشيعة في مصر، ومحاور المشروع الشيعي، والعتبات المقدسة "الحج الشيعي"، وأخيرًا "مسار آل البيت والسيطرة على مليون فدان بسيناء"، إذ يخرج محمد شعت من شجار الأفكار والمواقف اليومية الصغيرة الذي يشهده هذا الصراع المحتدم طيلة السنوات الماضية، ما بين الشيعة والدولة، أو بين رموزهم والتيارات السلفية وقطاعات شعبية عريضة، إلى فضاء أكثر اتّصالًا ببنية المشروع الشيعي وميكانيزماته، وبالسعي الجاد والحثيث إلى توقيعه بشكل عملي، بعيدًا عن أسئلة الفكر والفقه وحرية الحياة والتعبّد، التي يتّخذها الشيعة عنوانًا عريضًا للسير على التربة المصرية تحت ظلاله، ففي هذه الفصول يوثّق محمد شعت تحركات قادة الشيعة المصريين، المدعومة بالماكينة الإعلامية الإيرانية الرسمية، وبأموال طهران ووكلائها، لإنجاز مشروعات ذات صيغة اقتصادية وتنموية وعمرانية، ولكنها تتّصل اتّصالًا عضويًّا بتهيئة أرضية عملية للحضور الإيراني المباشر، بعيدًا عن التوسّل بالمذهبية والعقيدة، أو التخفّي وراء القيم الروحية ومظلومية الأقلية الشيعية في مصر، وعبر فضاء الفصول الأربعة شديد الثراء بالبيانات والمعلومات والحقائق والمواقف الموثقة بالتصريحات والتواريخ، يقدّم محمد شعت أول اشتباك حقيقي مع مخططات إيران العملية وظلالها الواقعية، وأول توثيق وافٍ لتحركاتها الملتبسة والخالطة بين الديني والسياسي والاقتصادي، ليكون هذا المبحث - ورغم أهمية ما يقدّمه الكتاب في كل فصوله - أهم ما أتاه الكاتب واستخلصه وصفّاه من ركام الارتباك والصراعات والبيانات والتصريحات المتضاربة، وأثمن ما يمكن أن تقع عليه بشأن تقديم قراءة نقدية عملية للتحركات التوسعية شبه الاستعمارية التي تستعين فيها إيران بعمائم آيات الله المملؤة بالدولارات والأفكار الإمبراطورية، وأول التفات جاد وبصير من كاتب أو باحث مصري لخطوط الغزل الإيراني الأولى، التي تتجاذب إلى بعضها، لُحمة وسداة، وتوشكّ أن تخيط علم الفارسيين في جغرافيا المصريين، ما لم يلتفت المهمومون بالهوية المصرية في مستوياتها العقدية والسياسية والوطنية والتاريخية، ويعملوا بشكل جاد على نقض هذا الغزل، قبل اكتمال حلم القادمين من بلاد الحوزات وآيات الله، لوراثة مقعد الفاطميين في الأزهر الشريف.
ربما يكون العرض - الذي لم يوف الكتاب حقه ولم يؤطّر شساعة أفكاره وطروحاته - طويلًا ومرهقًا كعرض وتقدمة صحفية الطابع لكتاب جديد، ولكن ما يحمله "الحج الشيعي إلى مصر" من ثراء في المادة والمعلومات، وتنوع في العناوين والموضوعات، وقدرة على المعالجة الراصدة بإحاطة، والمحلّلة بعمق وبيّنة، والكاشفة لكل جوانب الصورة، متوسّلة باستقراء جاد وواعٍ، وبمنهج لا تشوبه كثير من الهنات والمآخذ، وبدأب في البحث والربط والاستنتاج، ربما يحتاج إلى وقفة أطول في تناوله والتعاطي معه، سعيًا إلى استجلاء مسار واحدة من أكثر الصراعات اشتعالًا في مدوّنة العقلية الإسلامية وذاكرتها، منذ انتصار الشيعة الأوائل للشخصي على العام، ودمج الديني مع السياسي تحت راية على بن أبي طالب وآله، وحتى اللحظة الراهنة، التي يُعاد فيها إنتاج السيناريو نفسه، لمرة جديدة وغير أولى ولا أخيرة، ولكنها هذه المرة تأتي وسط شجار متعدّد الأطراف، الشيعة والإخوان والسلفيين وغيرهم، وكلهم يحاولون انتزاع الكعكة كاملة، بينما في البعيد يقف زارعو حنطتها وعاجنوها وخابزوها لا يستطيعون إلى الفكاك من براثن المتفيهقين ومنتزعي وكالة الله سبيلًا، ولأن الكشف أول الفهم والفهم أول الفعل، فقد يكون "الحج الشيعي إلى مصر" - بما يوفره من تعرية قوية وواضحة لنواقص كل هذه الأطراف - بداية حقيقة لفعل واعٍ، على الأقل في السياق المعرفي والثقافي والاجتماعي، يقطع طريق هؤلاء الحجاج، ومن على شاكلتهم في الداخل، وينتصر لمصر، قبل الشيعة وبعدهم، وقبل الإخوان والسلفيين وبعدهم، وهو ما أرى أن محمد شعت قد فعله بقوة وثبات في كتابه المهم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.