أدت اتفاقية سايكس - بيكو قبل مائة عام، بين فرنسا وبريطانيا إلى تقاسم التركة العثمانية فى المشرق العربى، وتحويل الولايات العربية التى كانت تحت سيطرة السلطنة العثمانية إلى ممالك وجمهوريات لكن فرنسا وبريطانيا قامتا آنذاك بمراعاة الموروث العثمانى المتبع منذ قرون فى إدارة شئون الولايات والأقاليم العربية، وانتبهتا إلى الوقائع السياسية والاجتماعية، لحظة ترسيم الحدود وإعطاء تلك الإماراتوالولايات طابع دول مستقلة تحت سلطة الانتداب، على الرغم من تراجع البعد الدينى لدى الأغلبية العربية المسلمة وصعود النزعة القومية عند أغلب المكونات الطائفية فى المجتمعات العربية كردة فعل على الممارسات العرقية التركو - عثمانية. بعد قرن تقريبًا، فشلت الأنظمة القومية العربية فى الحكم بعد سقوط الدولة العثمانية وخروج الاستعمار، وفى بناء دول وطنية حديثة ترعى التعدد، والتساوى فى الحقوق والواجبات بين جميع مواطنيها، بعيدًا عن انتماءاتهم الدينية أو القومية، وتسبب ذلك فى تنامى النزعة الانعزالية لدى الأقليات الدينية. كما أن سياسة التمييز الطائفى والمذهبى التى انتهجتها، أسفرت عن تنامى النزعة الانفصالية عند الأقليات القومية، وتوج هذا الفشل بوصول العسكريتاريا الأقلوية إلى الحكم، وممارستها اضطهادًا سياسيًا ضد باقى الأقليات، وتشتيتًا ممنهجًا لديموغرافيا الأغلبية، لكى تتمكن من إضعافها وحكمها، كما حدث فى العراقوسوريا. وقد أدى الغزو الأمريكى للعراق وسقوط نظام صدام حسين، إلى زعزعة ثوابت الموروث العثمانى فى الحكم، وانتقال السلطة من أقلية وطنية محمية بأغلبية عربية، إلى أغلبية وطنية تحولت سريعًا إلى أقلية عربية، جراء تصرفات معادية مارسها بعض رموزها تجاه محيطه العربى من جهة، ومن جهة ثانية عدم تقبل المحيط العربى لهذا التحول، باعتباره خارج سياق ثوابته وأعرافه المتبعة منذ قرون فى شكل الدولة ونظام الحكم، ما فتح الأبواب أمام طهران كى تدخل بغداد دون منافس، وتضع اليد على شيعة العراق؛ منافسوها دينيًا وثقافيًا، واحتواء الأكراد، من أجل تسهيل سيطرتها واستفرادها بالعملية السياسية العراقية، وضمها إلى محور دمشقبيروت كجزء من مجالها الحيوى. حاليًا من بوابة الاتفاق النووى مع الغرب، تحاول طهران استكمال الانقلاب الذى بدأته واشنطن سنة 2003 على ما تبقى من خريطة سايكس - بيكو المتهاوية فى شرق المتوسط، وإلغاء الامتيازات العثمانية فى السلطة والجغرافيا الموسعة، لصالح جغرافيا ضيقة تخضع لسلطة أقليات عرقية ودينية، يساعدها فى ذلك القبول الضمنى لدى إدارة البيت الأبيض، بتغيير الخريطة السياسية لهذه المنطقة، وترويج بعض دوائر صنع القرار الأمريكى لفكرة انتهاء شكل الدولة المعروفة منذ عقود فى سورياوالعراق، واستحالة العيش بين مكوناتها، ما سوف ينتج عن هذا التشظى، قيام دويلات أمر واقع بطابع طائفى وعرقى، ستكون إيران الراعى الرسمى لقيامها وحمايتها، على غرار التجربة الاستعمارية التى رافقت سقوط الدولة العثمانية وتقسيم الوطن العربى. بعد الصفعة التى تلقتها طهران فى اليمن، والضربة الاستباقية التى نفذتها عاصفة الحزم فى تقويض مشروع حكم الأقلية الحوثية للأغلبية اليمنية، اندفعت طهران من أجل الحفاظ على ما تبقى لها من مساحات تخضع لسيطرة قوات الأسد فى سوريا، والتى باتت تعرف بسوريا المفيدة الممتدة من دمشق إلى الساحل مرورًا بحمص وحماه، وقامت باستبدال ميليشيا الحشد الشعبى التى تخضع لسلطتها المباشرة بالقوات المسلحة الرسمية العراقية، وإضعاف نفوذ الحكومة المركزية لصالح الأحزاب الطائفية، وإفشال المصالحة الوطنية بين الشيعة والسنة، الذين فقدوا الثقة بحكومتهم من جهة، ولا يمكنهم التعايش والقبول بتسلط «الداعشو بعثى» على حياتهم ومستقبلهم من جهة أخرى، فيما يستمر تعطيل الحياة الدستورية فى لبنان، والتلويح الدائم بضرورة عقد مؤتمر تأسيسى جديد يراعى تحولات المنطقة. تنتظر طهران شرعنة نفوذها فى المنطقة العربية الممتدة من شواطئ الخليج العربى حتى سواحل البحر المتوسط، وتجاهد من أجل انتزاع اعتراف دولى على ما تبقى لها من امتداد جغرافى متعارف على تسميته بالهلال الشيعى، الذى تقطعت أوصاله وضاقت مساحاته جراء النزاعات المسلحة ذات الطابع الطائفى والعرقى الذى يدور بين مكوناته، وسيطرة تنظيم داعش على مساحات كبيرة من العراقوسوريا، حيث المجال الحيوى الأهم لإيران، وقلقها من خسارتها للجغرافيا الواصلة بين بغدادودمشقوبيروت، وهى تحاول الاستقواء بواشنطن فى وجه دول المنطقة، فيما غاب عن بالها أن الزعيم السوفيتى فلاديمير لينين قام بفضح اتفاقية سايكس - بيكو عندما رفضت فرنسا وبريطانيا الاعتراف بالدور الروسى فى فلسطين ببعده الأرثوذكسى، فهل يقف وريث الإمبراطورية القيصرية والاتحاد السوفيتى فلاديمير بوتين مكتوف الأيدى، فيما إيران تحاول سلبه آخر موطئ قدم له فى سوريا، فيما الرسائل السياسية السعودية تتصاعد، عبر وزير الخارجية عادل الجبير وتحذيره من العبث باستقرار المنطقة، والرسائل الميدانية عبر المقاومة اليمنية؟ نقلا عن الشرق الأوسط اللندنية