بقدر ما حمل الهتاف الخالد:"تحيا مصر" منذ عامين رسالة أمل في الثقافة السياسية المصرية ورفض الشعب المصري للفاشية المتسترة بشعارات دينية والاستسلام للتدهور العام ولقوى الهيمنة ومخططات تزييف الوعي والتاريخ فإن هناك نجاحات تتوالى بشائرها على أرض الواقع لكل من يقرأ المشهد المصري بتجرد وموضوعية فيما تواصل ثقافة ثورة 30 يونيو ترسيخ حضورها وطرح أسئلتها التي تتطلب إجابات جادة وأمينة في الواقع المصري وأوجه الحياة اليومية للمصريين. وتحل الذكرى الثانية لثورة 30 يونيو المجيدة غدا "الثلاثاء" متزامنة مع يوم الثالث عشر من شهر رمضان وإشراقات أنوار الثلث الثاني للشهر الفضيل على المصريين فيما تستدعي هذه الذكرى الكثير من الدروس والعبر على امتداد مصر المحروسة مؤشرة من جديد على أهمية "الاصطفاف الوطني". فغدا يمر عامان كاملان على تلك الثورة الشعبية التي صححت مسار الثورة الأم في الخامس والعشرين من يناير 2011 واستردتها من جماعة حاولت خطفها بل وخطف وطن بأكمله والعدوان على هويته بمكوناتها الثقافية البالغة الثراء والتنوع فيما تبقى تحديات ماثلة في المشهد المصري وتتطلب جدية الاستجابة من منطلق إعلاء الضمير الوطني. وخلال "إفطار الأسرة المصرية" الذي نظمته رئاسة الجمهورية بحضور 350 شخصا يمثلون كل أطياف وقطاعات المجتمع المصري - قال الرئيس عبد الفتاح السيسي إنه لا أحد يستطيع قهر إرادة المصريين ماداموا متحدين مؤكدا أن "ما قبل 25 يناير لن يعود ولن يستطيع أحد أن يعود بالمصريين للخلف مرة أخرى". إنه الماضي الذي رفضه شعب مصر بعد أن كابد مشهدا استمر لعقود بليدة وقد عمت الأمراض وحوربت الكفاءات ووئدت المواهب وانحطت الممارسات وتيبست مفاصل الدولة بشيخوخة مستبدة وانهار التعليم وساد النفاق في سياق من التجريف المتعمد لأي ثراء في وجه الحياة المصرية. وحذر السيسي كل من يحاول ترويع شعب مصر بأنه لن يكون أقوى من القرار الذي اتخذه هذا الشعب في 30 يونيو فيما وصف رئيس الوزراء إبراهيم محلب خروج الملايين من أبناء مصر في هذا اليوم "بالملحمة الشعبية التي شهد لها العالم أجمع". وتكشف لغة الخطاب الرئاسي في الذكرى الثانية لثورة 30 يونيو عن أنه لا عودة لمنظومة فساد ما قبل ثورة يناير 2011 كما أنه لا يمكن عودة حكم الفاشية المتسترة بشعارات دينية والتي أطاحت بها الثورة الشعبية في الثلاثين من يونيو 2013 لينتصر هذا الخطاب لإرادة شعب مصر في رفض ثنائية الفساد والاستبداد. وإذ تحاول بعض العناصر المنتمية لما قبل ثورة يناير اختطاف ثورة 30 يونيو أو الزعم بأنها تتحدث باسم السلطة التي أفرزتها هذه الثورة فإن على هذه العناصر أن تقرأ جيدا مغزى تأكيد الرئيس عبد الفتاح السيسي على أنه "لا عودة لما قبل 25 يناير" فضلا عن ندائه للمصريين بحسن اختيار نوابهم في البرلمان القادم. ولعل النظرة المتعمقة لممارسات تلك العناصر المثيرة للهواجس والبلبلة والشكوك وأجواء الإحباط تكشف عن أنها تخدم في التحليل النهائي ذلك التيار الظلامي الطامع والمتوسل بالإرهاب في استعادة حكمه الفاشي لشعب مصر والباحث عن ثغرة تمكنه من هذه العودة المستحيلة بحكم الواقع ودروس التاريخ !. وإذا كانت الثورات والتجارب التاريخية الواثقة من ذاتها لا تفرض حجرا على أي صوت حتى لو كانت أصوات من الماضي أو عبرت عن أنظمة أسقطتها الشعوب بتكاليف فادحة فلا جدال أن اللحظة المصرية الحرجة تشهد محاولات من بعض رموز وأصوات النظام السابق لإعادة عقارب الساعة للوراء لكنها بحكم التاريخ محاولات لا يمكن أن يكتب لها النجاح وإن أثارت الكثير من القلق والجزع في النفوس الطامحة "لقطيعة بائنة مع أنظمة الاستبداد والفساد". والذاكرة التاريخية تحفل بمحاولات لإعادة عقارب الساعة للوراء في مجتمعات شهدت ثورات كما حدث في قصة البوربون والثورة الفرنسية لكن التاريخ يؤكد أن إعادة إنتاج الماضي محكوم عليه بالفشل فيما أجيال جديدة لديها أشواق عارمة للتغيير وصنع المستقبل المغاير. وهكذا يحق للكاتبة سكينة فؤاد أن تدعو "لعدم ترك فراغات يملؤها خراب الماضي والفساد والنهب ووكلاء الإرهاب" تماما كما يحق لها أن تقول:"خابت كل الظنون والتوقعات التي حلمت بالفوضى الخلاقة تجتاح مصر وتدمرها والحرب الأهلية تحرقها وانتصرت إرادة وصلابة شعب أصبحت حرفة من حرفه وإبداعاته الأساسية صناعة النصر في لحظات مصيرية وفاصلة ومليئة بالمخاطر والتحديات". وفيما ينبغي لثقافة هذه الثورة أن ترسخ نظاما اقتصاديا واجتماعيا يجسد أهدافها في الواقع وأوجه الحياة اليومية ويستعيد فاعلية مصر في محيطها الإقليمي والعالم فإن سلطة 30 يونيو تبدو في سباق مع الزمن لإنجاز مشاريع وطنية كبرى في مقدمتها قناة السويس الجديدة كما أن ثورة 30 يونيو برهنت مجددا على جدارة المصريين بالديمقراطية وأصالة وعيهم الوطني وأثبتت تهافت المزاعم التي تطعن في أحقية هذا الشعب العظيم في أن ينعم بالحرية. وكما تدعو اللحظة الراهنة كل المصريين للعمل بلا هوادة من أجل مستقبل أفضل يقوم على التنمية المستقلة باعتبارها السبيل الحقيقي لتحرير الإرادة الوطنية المصرية. فلا يمكن في هذا السياق التقليل من حجم وأهمية الحقوق الثقافية التي تضمنها الدستور الجديد بعد ثورة 30 يونيو جنبا إلى جنب مع الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية فضلا عن الانتخابات الرئاسية التي اتسمت بالنزاهة والشفافية. وبينما يستعد المصريون لاستكمال استحقاقات خارطة الطريق بالانتخابات البرلمانية وصولا لبناء الدولة المدنية الحديثة فالحقيقة أن ثورة 30 يونيو شأنها شأن أي ثورة عظيمة ضد الاستبداد الداخلي أو الاستعمار الخارجي يمكن أن يتعرض تاريخها وجوهرها لمحاولات تزييف الوعي غير أن الملايين التي شاركت في هذه الثورة الشعبية لها أن تكون الحارس الأمين على ثورتها المجيدة وحمايتها من " فلول الفساد ورأسمالية المحاسيب وقوى الظلام" التي يهمها معا إعادة عقارب الساعة للوراء. وإذا كانت ثورة 30 يونيو مازالت تثير أسئلتها فقد اتفق العديد من المثقفين المصريين ومن بينهم الدكتور حازم حسني أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة على أن التصدي للفساد بكل صوره يشكل أولوية لثقافة 30 يونيو التي تدعو لنموذج الدولة العادلة والقوية فيما قال الشاعر والكاتب فاروق جويدة:"إننا أمام مجتمع يعاني فسادا مزمنا في مؤسسات الدولة وأمام أجيال ترهلت على المستوى السياسي والفكري". واعتبر جويدة أن هناك حاجة "لصحوة حقيقية تعيد للعقل المصري قدراته وتعيد لأجهزة الدولة دورها من خلال ضخ دماء جديدة في جسد تهاوى وتحلل امام واقع متجمد وفكر لا يقبل التغيير" لافتا إلى أنه إذا كانت المؤسسات تحتاج إلى إعادة تأهيل ودفع دماء جديدة في شرايينها "فإن الشارع المصري يشهد الآن تجربة قاسية في ظل تشرذم وتشتت القوى السياسية التي لم تستطع أن تقدم واقعا سياسيا مناسبا". ورأى أنه "شيء مخجل" أن الشعب الذي أطلق ثورتين "لم يستطع أن يجمع شبابه في حزب سياسي قوي ومؤثر بين جموع المصريين" فيما خلص فاروق جويدة إلى أننا في الوقت ذاته "أمام رئيس جديد له فكره ورؤيته ويعلم الكثير عن أمراض هذا المجتمع وقد جاء الوقت لتشهد مصر على يديه ميلادا جديدا لعصر جديد". وهذا العصر الجديد الذي يتطلع إليه المصريون يعني الحرية والعدل والنمو المتكافيء ودعم التحول الديمقراطي والتطور التكنولوجي وقبل ذلك كله عدم السماح لأي عناصر محسوبة على عصر الفساد أو جماعة الاستبداد والإرهاب "باختطاف ثورة 30 يونيو أو ثورة 25 يناير". ولا يمكن في الذكرى الثانية لثورة 30 يونيو تجاهل مغزى المشهد المصري الفريد والهتاف الخالد تحت شعار "تحيا مصر" حيث كانت كل كل أطياف المجتمع المصري في الشوارع والميادين تؤكد على أن "الوطن أولا" وتستظل بعلم مصر ولا تلوح سوى بهذا العلم تماما كما تنطق بأهمية الحلم الوطني الواحد وبناء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة. فالحشود المليونية غير المسبوقة تصدت منذ عامين للجماعة التي حاولت خطف ثورة يناير فيما كانت تلك الملايين تصنع ثورة جديدة هي في الواقع ثورة إنسانية ستبقى في أنصع صفحات التاريخ الإنساني وسجل الثورات العالمية وتؤشر لمعنى الحلم الواحد لشعب واحد. وفي كتابه:"الأرض المتصدعة" يتناول الكاتب باتريك فلانري معنى الحلم الواحد لمجتمع ما مثل المجتمع الأمريكي الذي توحد على حلم "الحرية والعدالة للجميع" وخطورة تفريط النخب في هذا الحلم لأن التكلفة المجتمعية تكون في هذه الحالة مريعة وتدفع برجل الشارع لليأس. والتفريط في الحلم الجامع لشعب ما يلحق أيضا أضررا فادحة بفكرة الديمقراطية ذاتها ويكرس انقسامات داخل المجتمع الواحد بحيث يكون لكل جماعة أو فئة حلمها الخاص والمتصادم مع الحلم العام تحت علم واحد في بلد واحد. وفيما قدمت لجنة تقصي الحقائق بشأن ما حدث يوم الثلاثين من يونيو 2013 جهدا مقدرا تستدعي اللحظة المصرية الراهنة التأكيد على الحاجة لمزيد من الجهد التوثيقي لرصد وتوثيق أهم التطورات التي شهدتها مصر منذ اندلاع مظاهرات 25 يناير 2011 بينما الهدف الثاني يتمثل في فهم وتفسير الأحداث التي شهدتها مصر في إطار مفاهيم علم السياسة المتصلة بموضوعات الثورة ووضع الدساتير والنظم الحزبية والحركات الاجتماعية في سياق عملية الانتقال. أما الهدف الثالث والأخير فمقارن يتمثل في الإشارة لتجارب الدول الأخرى التي سبقتنا في عملية التحول الديمقراطي في سياقات مشحونة بتحديات الأزمة الاقتصادية والريبة وعدم الثقة بين الفصائل السياسية وعدم الواقعية والوعود المبالغ فيها وأخطار التفكك الاجتماعي ونخب الإثارة والفوضى. ويبدو أن الوقت قد حان لتجسيد الهامات ثورة 30 يونيو في إبداعات ثقافية تعبر عن الحلم المصري الكبير وتجدد المشروع الوطني والتصالح مع قيم العصر دون مخاصمة للتراث الأصيل للمصريين والناجح في اختبارات الزمن. إن ثقافة 30 يونيو ينبغي تمكينها لمواجهة ظواهر سلبية مثل غياب ثقافة المسئولية السياسية والقانونية أو ضعفها " لدى العناصر المحسوبة على النخب الأمر الذي يدفع تلك العناصر "لإضاعة الوقت والجهد بعيدا عن العمل الجاد الذي يكشف القادرين على العمل السياسي والتنموي البناء. وفي بلد مثل بريطانيا يوصف بأنه "عريق في الديمقراطية" فإن تشريعات "الإصلاح العظيم" التي صدرت عام 1832 مازالت ملهمة على المستوى الثقافي لكتابات وكتب جديدة تبحث عن إجابات أعمق لمواقف النخب والجماهير في تلك الأيام الفاصلة في تاريخ بريطانيا بقدر ما تثري الثقافة السياسية مثل الكتاب الجديد لأنتونيا فريزر:"السؤال الخطر: دراما الإصلاح العظيم". وإذا كان هذا الكتاب الجديد يتحدث عن لحظات مفصلية في تاريخ بريطانيا وأهمية اتخاذ قرارات حاسمة في لحظات بعينها يكشف عنها الواقع فإن الثقافة السياسية المصرية بحاجة واضحة للابتعاد عن الأفكار التي لا تتصل بالواقع ولا يمكن تحقيقها وهي قضية مختلفة عن مسألة الحلم الوطني المصري للتقدم وصياغة آليات لتجسيد هذا الحلم في الواقع اليومي برؤية مستقبلية قابلة للتحقيق ومجاوزة للواقع ذاته. إن الجماهير التي خرجت في مصر منذ عامين لتصنع ثورة 30 يونيو إنما أسهمت في صنع التاريخ الإنساني للحرية ومقاومة الاستبداد لتثبت مجددا أن أكثر الأخطاء جسامة الاستهانة بالشعب أو عدم الوعي بحقيقة تلك الجماهير والإعراض عن قراءة رسالتها. ولم يكن للمثقفين المصريين في اللحظة المصيرية الراهنة أن يبتعدوا عن نبض شعبهم وبدا لكل ذي عينين أن الاتجاه الغالب بينهم يؤشر إلى أهمية النظر للمستقبل على قاعدة ثورة يناير-يونيو دون إغفال لدروس الماضي وخطايا حالت دون حق المصريين في الحياة بدولة ديمقراطية عصرية تشهد تداولا سلميا وطبيعيا للسلطة ويشعر فيها كل مواطن بالمساواة والكرامة والأفق المفتوح للمستقبل الأفضل. كما أن هذه الثورة الشعبية المجيدة برهنت على أن الأمور لا يمكن أن تدار بلا رؤية أو خيال سياسي أو مهارات وخبرات حقيقية أو "بخطابات سياسية سطحية وإنشائية وهتافات لفظية صاخبة وعدم الدراسة العميقة لمحمولات وعمق الخطابات" في عصر الثورة الرقمية وتحدياتها. وأظهرت ثورة 30 يونيو فداحة خطأ عدم مواكبة التغيير العميق في عالمنا المعولم وما يجري داخل بلادنا وما يعتمل من تغيرات وتحولات اجتماعية وسياسية في حنايا المجتمع المصري وتشكيلاته الجيلية الجديدة ولاما وصلت إليه حالة الدولة الوطنية التي أصابتها عديد الأعطال الهيكلية. ومن المنظور الثقافي التاريخي فإن العقل المصري المتمسك بثوابته الدينية كان دوما منفتحا على متغيرات الزمان ويأبى الانغلاق مدركا أن عنصر المكان أو المعطيات الجغرافية لموقع مصر ذاتها لا تسمح بمثل هذا الانغلاق أو الإقامة المستديمة في الماضي. فمصر لا يمكن أن تقف عاجزة عن الإجابة عن قضايا العصر والمشاركة الفاعلة في ثورة العلوم والتكنولوجيا كما أن ثورتها الشعبية لن تكتمل إلا بتغيير علاقات الإنتاج باقتصاد يستجيب للجوهر الإنساني ويضمن كرامة الإنسان بعيدا عن الجموح الرأسمالي اللاإنساني كشرط لنجاح أي ثورة فضلا عن تحديث مؤسساتها وبناء نموذج التنمية المنحاز للأغلبية والمرتكز على العدالة وتكافؤ الفرص والمنسجم مع التحولات الكبرى كما عبرت عنها الثورة بمحركاتها وفي طليعتها كتلها الشابة بروحها الوثابة. هذا وطن لن يموت وشعب لا ينكسر وثورة قادرة على تصحيح المسارات وتعديل موازين القوى ووضع خريطة طريق لتجسيد الحلم المصري في الواقع المصري وهي خريطة لا يمكن إلا أن تكون مصرية خالصة ومعبرة عن هوية مصر.. وستنتصر مصر المبدعة..مصر الأمل والعمل على قاعدة المساواة والعدل والحرية والروح النقدية..مصر الوفية لدماء الشهداء وأشواق الكادحين وثورة 30 يونيو التي لم تكن أبدا حفرا في السراب!!. ها هي ثورة 30 يونيو في ذكراها الثانية قد باتت فخرا لكل المصريين بعد أن أصبحت بمعانيها وقيمها ملكا للإنسانية كلها.. فتحيا مصر..تحيا مصر وقد عقدت العزم على تحقيق حلمها والإجابة على أسئلة ثورتها وتحديات زمنها تحت علمها.