إعداد: أحمد صوان إشراف: سامح قاسم يُعتبر الإمام أبوحامد الغزالي واحدًا من أعلام التصوف في عصره، وواحدًا من كبار العلماء الذين خاضوا رحلة طويلة في مختلف العلوم حتى وصل إلى غايته؛ سافر وارتحل في بلاد المسلمين، وتلقى العلم من كبار الشيوخ، وناظر عُلماء عصره وفاقهم، وتلقى على يديه العلم آخرون صاروا فيما بعد أئمة. "النّاس يقولون لي الغزّالي، ولستُ الغزّالي، وإنّما أنا الغَزَالي منسوبٌ إلى قرية يُقال لها غزالة". اسمه بالكامل هو أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزّالي الطوسي النيسابوري، وكُنّيته "أبي حامد" نسبة لولده الذي مات صغيرًا، ويُعرَف ب"الغزّالي" نسبة إلى صناعة الغزل، وهي مهنة أبوه، وكذلك نسبة إلى بلدة غزالة من قرى طوس، كما يُعرف ب"الطوسي" نسبة إلى بلدة طوس الموجودة في خراسان، والتي تُعرف الآن باسم مدينة مشهد موجودة في إيران؛ واختلف الباحثون في أصله، أعربي أم فارسي، وهناك من ذهب على أنه من سلالة العرب الذين دخلوا بلاد فارس منذ بداية الفتح الإسلامي، ومن الباحثين من ذهب إلى أنه من أصل فارسي. ولد الإمام الغزّالي عام 450 هجرية في الطابران من قصبة طوس، لأسرة رقيقة الحال، وكان أباه يعمل في غزل الصوف وبيعه، وكان الأب لا يأكل إلا من كسب يده، وكان يحضر مجالس الفقهاء ويجالسهم، ويقوم على خدمتهم، وينفق بما أمكنه إنفاقه، وكان كثيرًا يدعو الله أن يرزقه ابنا ويجعله فقيهًا؛ وطلب العلم في صباه، فأخذ الفقه في طوس على يد الشيخ أحمد الراذكاني، ثم رحل إلى جرجان وطلب العلم على يد الشيخ الإسماعيلي، ثُم رحل إلى نيسابور ولازم إِمام الحرمين أبو المعالي الجويني، وهو إمام الشافعية في وقته، فدرس عليه مختلف العلوم، من فقه الشافعية، وفقه الخلاف، وأصول الفقه، وعلم الكلام، والمنطق، والفلسفة، وجدّ واجتهد حتى برع وأحكم كل تلك العلوم. عقب وفاة أستاذه خرج الغزالي قاصدًا الوزير نظام الملك وزير الدولة السلجوقية الذي كان زميله في الدراسة، وكان له مجلس يجمع العلماء، فناظر كبار العلماء في مجلسه وغلبهم، وظهر كلامه عليهم، واعترفوا بفضله، وتلقوه بالتعظيم والتبجيل؛ وقبل عرض نظام الملك بالتدريس في المدرسة النظامية في بغداد، وأُعجب به الناس لحسن كلامه وفصاحة لسانه وظل هُناك أربعة سنوات، حتى اتسعت شهرته وصار يُشدّ له الرّحال، ولُقّب ب"الإمام" لمكانته العالية، ولقّبه نظام الملك ب "زين الدين" و"شرف الأئمة"، وحضر مجالسه الأئمة الكبار كابن عقيل وأبي الخطاب وأبي بكر بن العربي. انهمك الغزالي في البحث والاستقصاء والردّ على الفرق المخُالفة بجانب التدريس، فألّف كتابه "مقاصد الفلاسفة" يبُيّن فيه منهج الفلاسفة، ثمّ نقده بكتابه "تهافت الفلاسفة" مهاجمًا الفلسفة ومبيّنًا تهافت منهجهم؛ ثُمّ تصدّى لفكر الإسماعيلية الذي كان منتشرًا في وقته والذين لُقّبوا بالباطنية، وكانوا ذوو قوّة سياسية، حتى أنّهم اغتالوا الوزير نظام الملك، وتُوفي بعده الخليفة المقتدي بأمر الله، ولمّا جاء الخليفة المستظهر بالله، طلب منه أن يُحارب الباطنية في أفكارهم، فألّف في الردّ عليهم كتب "فضائح الباطنية، حجّة الحق، وقواصم الباطنية"؛ وكان كتابه الأهم "إحياء علوم الدين" أحد أهمّ الكتب في موضوع التصوف وعلم الأخلاق، والذي ألّفه خلال رحلة عزلته التي دامت إحدى عشرة سنة، حيث بدأ في تأليفه في القدس، وأنهاه في دمشق. بعد خوض الغزالي في علوم الفلسفة والباطنية، عَكَف على قراءة ودراسة علوم الصوفية، وصحب الشيخ الفضل بن محمد الفارمذي، والذي كان مقصدًا للصوفية في عصره، ولكن قبل أن يستقر على التصوف، مرّ بمراحل كثيرة في حياته الفكرية، رواها بنفسه في كتابه "المنقذ من الضلال"، فابتدأ بمرحلة الشكّ بشكل لا إرادي، والتي شكّ خلالها في الحواس والعقل وفي قدرتهما على تحصيل العلم اليقيني، ودخل في مرحلة من السفسطة غير المنطقية، ثُم تفرّغ بعدها لدراسة الأفكار والمعتقدات السائدة في وقته، وعكف على دراسة علم الكلام حتى أتقنه، وألف فيه عدة كتب أصبحت مرجعًا في علم الكلام فيما بعد، مثل كتاب "الاقتصاد في الاعتقاد". بدأ الغزالي بمطالعة كتب الصوفية مثل "قوت القلوب" لأبي طالب المكي، وكتب الحارث المحاسبي، والمتفرقات المأثورة عن الجنيد وأبي بكر الشبلي وأبي يزيد البسطامي؛ كما كان يحضر مجالس الشيخ الفضل بن محمد الفارمذي الصوفي -والذي أخذ عنه الطريقة- فتأثر بهم وبدأ طريقه. بعد أن عاد الغزّالي إلى طوس، لبث فيها بضع سنين، وما لبث أن تُوفي يوم الإثنين 14 جمادى الآخرة 505 هجرية في قرية الطابران في مدينة طوس، وروى أبو الفرج بن الجوزي في كتابه "الثبات عند الممات" عن أحمد أخو الغزالي "لما كان يوم الإثنين وقت الصبح توضأ أخي أبو حامد وصلّى، وقال: عليّ بالكفن، فأخذه وقبّله، ووضعه على عينيه وقال: سمعًا وطاعة للدخول على الملك، ثم مدّ رجليه واستقبل القبلة ومات قبل الإسفار، وقد سأله قبيل الموت بعض أصحابه، فقالوا له: أوصِ، فقال: عليك بالإخلاص، فلم يزل يكررها حتى مات.