سعادتك زعلان من أفلام السبكى وإخوته من منتجى السينما المصرية؟ زعلان من هيمنة الأفلام الأمريكية على دور العرض وقنوات التليفزيون وعقول الشباب؟ ومن صوفينار وبرديس ومنة وبقية «الرقاصات»؟ بدلًا من أن تشغل عقلك، وتضايق نفسك، بالفرجة على هذه الأفلام والكليبات «المسفة»، ثم تضيع وقتك وطاقتك في الهجوم عليها، إليك نصيحة توفر بها الجهد والوقت وتحارب بها الإسفاف أفضل من الشتيمة: ابحث عن أفلام جيدة لتشاهدها وتدعم صناعها وتبرهن لهم أن الفن المحترم له جمهور أيضا. على فكرة الأعمال الفنية الجيدة حولك في كل مكان، فلا تحاول أن تخدعنى أو تخدع نفسك بادعاء أن الفن الهابط مسيطر. الحقيقة أن الجمهور الهابط هو المسيطر. هل تعلم أن هناك فيلمًا عربيًا فلسطينيًا عظيمًا فنيًا يعرض في مصر حاليا، وهو فيلم «عمر» للمخرج هانى أبو أسعد، الذي رشح لأوسكار أفضل فيلم أجنبى، بجانب حصوله على العديد من الجوائز الدولية؟ طيب هل تعلم أنه بدءًا من اليوم تشهد دور العرض المصرية فيلمًا اسمه «ذيب»، حصد هو الآخر عددًا كبيرًا من الجوائز الدولية وتم توزيعه عالميا، واعتبره بعض النقاد الأجانب واحدًا من أفضل الأفلام التي ظهرت في السنوات الأخيرة؟ «ذيب» هو العمل الأول للمخرج ناجى أبو نوار، الأردنى، الذي درس السينما في المملكة المتحدة، وقد ساهمت في إنتاجه عدة شركات من الأردن والإمارات وقطر والمملكة المتحدة. الفيلم عرض لأول مرة في قسم «آفاق جديدة» بمهرجان فينيسيا الدولى 2014، وحصل على جائزة أفضل فيلم في هذه المسابقة، كما شارك بعدها في عدد من المهرجانات الدولية والمحلية، منها «تورنتو» و«لندن»و«أبوظبي»، وحصل على عدة جوائز أخرى. سيبك من الجوائز، فهى ليست المعيار الوحيد للحكم على الأفلام. «ذيب» فيلم ساحر حتى لو لم يحصل على أي جائزة، وحسب رأيى المتواضع كان يستحق أن يشارك في مسابقات أكبر، وأن يحصل على جوائز أكبر من التي حصل عليها، وأعتقد أن العائق الوحيد الذي واجهه هو أن البعض لم يفهمه كما ينبغى، وسوف أتعرض لذلك لاحقًا. تدور أحداث «ذيب» منذ نحو مئة عام، خلال الحرب العالمية الأولى التي استمرت من 1914 وحتى 1918، في الصحراء العربية التي تمتد من شمال السعودية حتى الأردن، والتي شهدت صراعًا دمويًا بين القوات المتحاربة: الإمبراطورية العثمانية من جهة وبريطانيا العظمى من جهة، سعيًا وراء السيطرة على منطقة الشرق الأوسط المفصلية. يتتبع الفيلم مسارًا دراميًا يشبه مسار فيلم «المومياء» لشادى عبد السلام. قبيلة بدوية يموت كبيرها في بداية الفيلم، ثم يجد كل من الأخ الأكبر والأصغر نفسيهما وسط صراع دموى لا يعرفان عن خلفياته شيئًا، وسرعان ما يموت الأخ الكبير، ويصبح على الصغير اتخاذ موقف من الصراع الدائر حوله والوصول إلى النضج، وخلال كل ذلك نتعرف على حياة وعادات قبيلة قديمة معزولة يدهمها قطار الزمن والتغيير إلى الأبد. هذا هو الخط العام بالطبع، والذي يمكن أن تبنى عليه عشرات الأفلام، ولكن القصة والخلفية التاريخية والمسار الذي يسلكه البطل مختلف تمامًا. «ذيب»، التي تعنى ذئبًا باللهجة البدوية، طفل لم يصل للبلوغ بعد، هو الابن الأصغر لزعيم القبيلة الذي يتوفى تاركًا خلفه ثلاثة أبناء، حمود وحسين وذيب. ذات ليلة يصل ضابط بريطانى حيث تنصب القبيلة خيامها، فيستضيفه الأبناء ويكرمونه، ويطلب منهم دليلًا للصحراء للوصول إلى بئر قديم قريب. يذهب الأخ الأوسط حسين بصحبة الضابط، وبدافع الفضول يتتبعهما ذيب، وعندما يكتشفان وجوده يصر الضابط على استكمال الرحلة لضيق الوقت، ولكنهم يتعرضون لهجوم قطاع الطرق، مما يسفر عن معركة طاحنة لا يبق منها سوى ذيب ورجل مصاب من قطاع الطريق، ويتعين على الإثنين أن يتعاونا سويًا للخروج من الصحراء والوصول إلى بر الأمان. لا يتعرض الفيلم للحرب وتفاصيل النزاع الدائر بشكل مباشر، ولا يستغرق وقتًا طويلًا في التعريف بعادات القبائل البدوية، وهو ما قد يتسبب في عدم فهم بعض السلوكيات والدوافع والمعارك التي تنشب أحيانًا. ولكن لا تشغل بالك بكل هذا، فقد قرر مخرج الفيلم وكاتبه ناجى أبو نوار التخلص من كل لقطة أو جملة حوار زائدة ليحفظ لفيلمه نقاءه وجماله الفنى البصرى وإيقاعه المتسارع تدريجيًا، وهى شجاعة تذكرنا مرة أخرى بشادى عبد السلام و«المومياء». دعك من الفهم، فيمكنك أن تقرأ بعض المقالات عن الحرب العالمية الأولى في الشرق الأوسط، وعن عادات القبائل البدوية قبل أو بعد أن تشاهد الفيلم، أما أثناء المشاهدة فعليك أن تترك نفسك للصور وتتابعها مثلما تفعل عندما تستمع للموسيقى الخالصة. قرر صناع الفيلم عدم الاعتماد على الممثلين المحترفين، واعتمدوا بالكامل على السكان الأصليين من البدو، باستثناء الذين لعبوا دور الضباط والجنود الإنجليز والأتراك، وهو قرار شجاع آخر أثمر عن إحساس بالواقعية يصعب أن تجده في الأعمال «التمثيلية»، وقد تألق بشكل خاص الطفل جاسر عيد، الذي لعب دور «ذيب»، والذي جاء أداؤه طبيعيًا وجذابًا بشكل لا يقاوم. وهو ما ينطبق أيضًا على حسين سلامة الذي لعب دور الأخ الأكبر «حسين»، بالرغم من دوره القصير، وهو ما يترك فراغًا وإحساسًا بالفقدان يبقى طوال الفيلم. حتى حسن مطلق، الذي يؤدى دور قاطع الطريق، يبدو مقنعًا، شريرًا، وعاديًا إلى درجة الطيبة أحيانًا، بشكل يندر أن يعبر عنه الممثلون المحترفون. الطبيعة الصحراوية البكر هي أيضا عنصر رئيسى في الفيلم، تمثل وتشارك في القصة والدراما وتمنح للفيلم مزاجه وجوه الخاص. عندما تنتهى من مشاهدة العمل ستشعر أنك عدت للتو من رحلة سفارى في الصحراء، انتهت بسرعة قبل أن تشبع عينيك وروحك من زيارتها. إذا كنت فعلًا ترغب في محاربة السينما الهابطة، اذهب لهذا الفيلم وأثبت لصناع السينما التجارية أنهم على خطأ عندما يتبجحون ويقولون إن الجمهور المصرى هابط يحب الهبوط! النسخة الورقية