يحفر الموسيقار عمر خيرت اسمه "كأيقونة ثقافية فنية مصرية"، فيما يشكل الإقبال الجماهيري الكبير على حفلاته الأخيرة بالمسرح الكبير في دار الأوبرا ظاهرة ثقافية جديرة بالتأمل. وعمر خيرت الذي ولد في 12 نوفمبر 1947 بالقاهرة يعد من أشهر الموسيقيين المصريين في الوقت الحالي، وهو مؤلف موسيقي وموزع وعازف بيانو بل إنه يوصف بأنه "ملك البيانو"، بينما يصف هو ذاته البيانو بصديقه الأثير وأم الآلات الموسيقية. ويمكن القول إن عمر خيرت يشكل "نقلة نوعية في تطوير الشخصية الموسيقية المصرية الخالصة" التي كان عمه الموسيقار أبو بكر خيرت أحد من وضعوا ملامحها التأسيسية في العصر الحديث، فيما يلفت عمر خيرت إلى أنه إذا كان القاريء في الأدب بمقدوره أن يتعرف على الكاتب من أسلوبه وهو ما ينطبق كذلك على الفنون التشكيلية، فلابد أيضا أن يكون للمؤلف الموسيقي شخصيته الموسيقية ومفرداته المميزة. ورغم شهرته التي طبقت الآفاق يؤكد عمر خيرت أنه يشعر بحالة من القلق البالغ قبيل أي حفل يواجه فيه الجمهور حتى إنه يصف الأمر "بالامتحان الصعب"، موضحا أنه "يحب جمهوره ويخشاه في الوقت ذاته"، وهو صاحب الفضل الأول عليه. عمر خيرت فنان صاحب رؤية ثقافية وطنية يعبر عنها أحيانا في مقابلات صحفية، مؤكدا أنه من المستحيل "سقوط مصر مهما مر عليها من صعاب ومحن"، فهى "منارة الدنيا وصاحبة الجذور التاريخية العريقة". ومن الطريف والدال أن الراحلة العظيمة فاتن حمامة هي التي اكتشفت وقدمت عمر خيرت على المستوى الجماهيري عبر الموسيقى التصويرية التي أبدعها لأعمال إذاعية وتليفزيونية وسينمائية قدمتها سيدة الشاشة العربية مثل فيلم "ليلة القبض على فاطمة"، ومسلسل "ضمير أبلة حكمت". وكانت بعض الصحف قد أشارت إلى أن "تذاكر حفلات عمر خيرت في الأوبرا تباع في السوق السوداء"، وأن هناك العديد من الشكاوى من هذه الظاهرة، بينما أشارت الدكتورة إيناس عبد الدايم رئيس دار الأوبرا إلى اتجاه لبيع التذاكر الكترونيا عبر شبكة الإنترنت. وفي الآونة الأخيرة، تتجه دار الأوبرا "لكسر الطابع النخبوي الضيق" وتطرح إمكانية تقديم روائع الموسيقى والغناء للشعب المصري بكل أطيافه وشرائحه، ناهيك عن الضيوف الأجانب والارتقاء بالذوق العام للمجتمع ودحر ثقافة القبح والتلوث السمعي- البصري، فيما ترى الدكتورة إيناس عبد الدايم الأوبرا كمنارة ثقافية يلتف حولها كل المصريين. وواقع الحال أن حفلات الأوبرا على وجه العموم في الآونة الأخيرة باتت تحظى بإقبال كبير وتأتي هذه الظاهرة رغم أن مثقفا مصريا مثل الكاتب والمعلق السياسي الدكتور أسامة الغزالي حرب قد ذهب مؤخرا إلى أن فن الأوبرا هو "فن نخبوي بطبيعته ومع ذلك له جمهوره العريق في مصر ولكنه في الحقيقة يمثل جمهورا ضئيلا للغاية في بلد تعداده 95 مليونا وبضاعته الأساسية هي الثقافة، فضلا عن أن الشعب المصري عرف فن الأوبرا مبكرا للغاية منذ نحو قرن ونصف القرن". وإذا كان أسامة الغزالي حرب يدعو ألا تقتصر عروض الأوبرا على القاهرة والإسكندرية فقط، فها هي كلمات تنبض بالحنين يستعيد بها الإذاعي والشاعر الكبير فاروق شوشة "أكشاك الموسيقى" التي كانت تمتد في كثير من ربوع مصر. ويطرح فاروق شوشة فكرة جديدة هي "أكشاك الثقافة" التي ينبغي أن تقام في كل قرية ونجع لتلبي الاحتياجات الثقافية لملايين المصريين، موضحا أن هذه "الأكشاك" يمكن أن تكون في صورة مكتبات متنقلة وتقدم أيضا عروضا سينمائية ومسرحية وأنشطة فنية موسيقية وغنائية. وفي هذا السياق، قال شوشة "آن الأوان لكي نحلم بثقافة تمشي على الأرض، تلامس الواقع وتشتبك معه بدلا من ثقافة المزاعم والرؤى والتصورات التي تندثر عادة بالكلمات الكبيرة البراقة"، معتبرا أن الواقع على مستوى الاحتياجات والإمكانات يتطلب "ثقافة تمشي على قدمين ولا تحلق في الهواء"، وهى "ثقافة مغروزة في طين مصر الذي يعيش فيه وعليه الملايين من أبناء الوطن في القرى والعزب والكفور والنجوع". وأضافت فرق دار الأوبرا المصرية أجواء احتفالية من المتعة الراقية لتزيد من توهج ونجاح المؤتمر الاقتصادي الأخير في شرم الشيخ، بقدر ما كانت هذه العروض الفنية تحمل رسالة مصر المبدعة بفنونها وثقافتها المتنوعة والثرية للعالم قاطبة. وقال الرئيس عبد الفتاح السيسي في كلمته بالجلسة الختامية لهذا المؤتمر العملاق في مدينة شرم الشيخ إن مصر موجودة منذ سبعة آلاف سنة وعلمت الحضارة للعالم أجمع معيدا للأذهان أن بعض الدول حاولت في الماضي التعلم من عظمة الشعب المصري. وفي هذا السياق، لفتت إيناس عبد الدايم إلى الإسهام الثقافي الفني في تنشيط الاقتصاد المصري وقالت إن الثقافة والفنون يتعدى دورهما مجرد الترفيه للمساهمة في بناء الإنسان المصري. وإذا كانت الدكتورة إيناس عبد الدايم قد تحدثت عن تعظيم دور صناعة الثقافة والموسيقى وأكدت أهمية دور الفن في إنارة العقول وتنمية الوعي الثقافي لمقاومة الفكر المتطرف ومواجهة قوى الشر والظلام ودحر الإرهاب، فإن إقبال المصريين على العروض الفنية الجادة والممتعة يبرهن على سوية الذائقة العامة. وتحظى أعمال الأوبرا باهتمام كتاب صحفيين من أصحاب الاهتمامات الثقافية مثل الدكتور أسامة الغزالي حرب الذي كان قد أبدى إعجابه بعرض أوبرا "عايدة" على المسرح الكبير لدار الأوبرا، معيدا للأذهان أن فن الأوبرا عريق ويرجع تاريخه في إيطاليا إلى أواخر القرن ال(16)، فيما تمنى أن تتزايد أعداد دور الأوبرا في مصر. بينما يصف الكاتب الصحفي الدكتور عمرو عبد السميع الأوبرا "بالمنبر التثقيفي والتنويري رفيع المقام"، مشيدا بالعروض الرائعة للأوبرا المصرية بقيادة الدكتورة إيناس عبد الدايم أثناء الموسم الثقافي في الشتاء الحالي.. معتبرا أن بعض العروض تحولت إلى "شلال من البهجة والحيوية البالغة". وإذا كان عمر خيرت قد أعاد الروح للموسيقى التصويرية في الأفلام والمسلسلات التليفزيونية المصرية فإنه يقر بالفضل لرواد في هذا المجال الإبداعي مثل اندريا رايدر وعلي إسماعيل وفؤاد الظاهري، معتبرا في الوقت ذاته أن "الموسيقى التصويرية ينبغي أن تؤلف خصيصا للعمل". وثمة حاجة لدراسات ثقافية متعمقة في إبداعات رواد الموسيقى التصويرية في السينما المصرية، مثل اندريا رايدر الذي قضى منذ أكثر من 44 عاما وأسهمت إبداعاته الموسيقية في أفلام من أهم وأشهر كلاسيكيات السينما المصرية في تشكيل وجدان أجيال تلو أجيال من المصريين والعرب عموما. ولئن كان اندريا رايدر قد ولد في اليونان يوم 10 أغسطس عام 1908 فإنه قضى أغلب سنوات عمره في مصر وحصل على جنسيتها، فيما حظى بتكريم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي منحه وسام الاستحقاق في الفنون. واندريا رايدر الذي اختير كأفضل مؤلف موسيقي في الاحتفال بالذكرى المئوية الأولى للسينما المصرية وضع الموسيقى التصويرية ل 55 فيلما روائيا مصريا من بينها "دعاء الكروان"، و"المراهقات"، و"الباب المفتوح"، و"غروب وشروق"، كما أنه المؤلف الموسيقي للأغنية الدينية الشهيرة "هايم في حب الله" التي أنشدها المطرب الشيخ محمد الطناني. وعمر خيرت خريج أول دفعة في معهد الكونسرفتوار الذي افتتح عام 1959 ينوه دوما بالدور الموسيقي الكبير لعمه الموسيقار أبو بكر خيرت ويصفه بأنه "أكبر مؤلف للموسيقى الكلاسيكية في مصر". ويلفت عمر خيرت للجهود الرائدة والمخلصة للموسيقار أبو بكر خيرت على صعيد تأسيس أكاديمية الفنون ومعاهد الكونسرفتوار والباليه والموسيقى، كما أنه كمهندس معماري في الأصل كان صاحب تصميم أكاديمية الفنون، فيما قدمت هذه الأكاديمية أسماء مبدعين مصريين في الموسيقى مثل رمزي يسى ومصطفى ناجي وحسن شرارة وإيناس عبد الدايم. ودور الأوبرا والمسارح الكبرى في العالم تقدم دوما أيقونات فنية وثقافية خالدة مثل راقصة الباليه الروسية مايا بيلتسيكايا التي قضت مؤخرا عن عمر يناهز ال89 عاما وكانت توصف بأنها "أيقونة مسرح البولشوي وأشهر راقصة باليه في العالم" وقدمت وهى في الثمانين من عمرها رقصة شهيرة بقصر الكرملين أمام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ولئن كان عمر خيرت يصف روسيا "بالبلد الذي يحترم الموسيقى والفنون الراقية احتراما كبيرا" فهو يرى أيضا أن شعوب أوربا وأمريكا عموما هي أكثر شعوب العالم تذوقا للموسيقى. وشهدت ليالي القاهرة في الصيف الماضي إبداعات مصرية في الموسيقى والغناء لأسماء مثل رشا يحيي ورانيا يحيي وأميرة أحمد والطفل الموهوب يحيى الهرميل ونسمة عبد العزيز ودينا الوديدي فيما قدم الموسيقي المبدع الدكتور جمال سلامة مفاجآة سارة لعشاق الموسيقى بإطلالة شارك فيها ضمن هذه الفعاليات التي شهدت إقبالا ملحوظا وخاصة من الشباب. ويأمل بعض المثقفين اهتماما أكبر من جانب وسائل الإعلام وخاصة التليفزيون بعالم الأوبرا فيما يسترجع البعض بالحنين برنامجا تلفزيونيا عن الأوبرا كان يقدمه في أواخر ثمانينيات القرن الماضي الفنان الراحل يوسف السيسي أحد قادة أوركسترا القاهرة السيمفونية مع أن هذا البرنامج لم يستمر طويلا. وعلى أي حال يبدو أن الموسيقار عمر خيرت سيهب صيف القاهرة هذا العام المزيد من وعود الجمال وليالي الشرق الفاتن والحلم الجميل ويصنع من المدى مدى ساحرا!.