تدور أحداث رواية الطلياني الصادرة عن دار التنوير الحاصلة على جائزة الرواية العربية "البوكر" لعام 2015، في فترة زمنية محددة من التاريخ التونسي الحديث، بلغة سردية رشيقة سلسلة قريبة من الكثيرين، حيث تناول بالتحديد أواخر حكم برقيبة وأوائل حكم الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن على. وتدور غالبية أحداث الرواية في الحرم الجامعي، ليغوص عميقًا في عوالم الطلاب وتنظيماتهم السياسية، فالطلياني شيوعي "يساري متطرف"، بينما زينة المستقلة إلى حد كبير كانت تنتقد التطرف بكل أنواعه، و"الحركات الفاشية ذات المشروع الديني الاستبدادي واليسار أيضًا"، وكأن الرواية رسالة ضد التطرف، وخاصة من قبل النقيضين الإسلامي واليساري، ف"لكل جهله المقدس وأصوله الكاذبة"، على حد تعبير "زينة" بطلة الرواية. تتأرجح الرواية ما بين السيرة، وإن لم تكن شخصية ربما، وما بين التاريخ أو محاولات استنطاقه، من خلال ضمير المتكلم الذي يخاطب القارئ عبر شخص الراوي، الصديق المشترك ما بين الطلياني وزينة، التي كان الراوي يعشقها ويتمناها له، ولكنه لم يكن يمتلك الجرأة ليبادر تجاهها بما يعبر عن مشاعره، أو ما يختلج في دواخله، في حين كان الراوي يلعب دور سارد حكايات الشخصيات وحيواتها، وكأنه يتكلم بألسنتها، لكن دون أن يسكنها، لذا نراه يتحدث عنها لا بلسانه، بل بلسان شخصيات أخرى. عبد الناصر الطلياني قيادي سابق في الاتحاد العام للطلبة في تونس يدعى وهو طالب حقوق من سكان العاصمة تونس، والذي يتميز بوسامة إيطالية وتجمعه علاقة حب مع زميلته زينة التي يختلف معها اجتماعيًا في حين يجمعهما هدف تثوير المجتمع. زينة طالبة فلسفة قادمة من قرية بربرية بالشمال الغربي والمتمردة لتأثرها بفكر بورقيبة الذي منح النساء حقوق تكاد تكون أفضل من الرجال، وتسرد الرواية أحداث مرحلة مهمة من تاريخ تونس مرت بها البلاد في السنوات الأخيرة من حكم بورقيبة وما تلاها وتتناول أحلام جيل نازعته طموحات وانتكاسات صراع الإسلاميين واليساريين ونظام سياسي ينهار. تبدأ الرواية بمشهد عنف غير مبرر من "الطليانى"، ضد الشيخ علال، الذي تحول إلى شيخ بعد وفاة والد زوجة الشيخ الشهير، يوم جنازة والده الحاج محمود، ليفتح المبخوت سؤالًا يبقى يرافق القارئ حتى الصفحات الأخيرة من الرواية، ومفاده: لماذا فعل عبد الناصر (الطلياني) ذلك، في تقنية سردية تقوم على مبدأ إشراك القارئ من خلال الاحتمالات المتعددة للإجابة على السؤال الذي يشغل المسار الذي يتبعه القارئ حتى النهاية أو ما قبيلها. الرواية مؤلفة من 12 فصلا، تبدأ ب "الزقاق الأخير" وتنتهي بفصل "رأس الدرب"، وخلالها يطرح الكاتب التونسي شكري المبخوت من الجملة الأولى مشكلة ارتكبها البطل، ساعة دفن والده: "لم يفهم أحد من الحاضرين في المقبرة يومها لِمَ تصرّف عبد النّاصر بذلك الشكل العنيف، ولم يجدوا حتى في صدمة موت الحاج محمود سببًا مقنعًا". ورغم كون هذه الرواية عملا بكرًا، إلا أنه عكس طاقات سردية كأمنة لدى المبخوت، الأكاديمي والناقد بالأساس، وقدرته على إدارة الرواية بشكل جيد. والطلياني هي كنية لبطل الرواية عبد الناصر، وقد كنّي كذلك لجمال وسم به.. ربما تكون أمه زينب "توحّمت على إحدى الشخصيات في قناة الراي أونو الإيطالية"، ومن خلاله يفتح المبخوت أبواب الرواية على مصراعيها ليدخلنا إلى عوالم، المنحدر من عائلة ارستقراطية، تقطن إحدى ضواحي العاصمة. تشكل الجامعة داخل الرواية صورة مصغرة عن الجماعات الحزبية في تونس، من أقصى اليمين الإسلامي إلى أقصى اليسار الماركسي، مرورا بالوسط الليبرالي والاشتراكي. ويشكل بطل الرواية: عبد الناصر في الحقوق وزينة في الفلسفة أبرز ملامح هذه الصورة، وإن كانت سيطرة الإسلاميين وشبحهما المنذر باستلام السلطة، رغم الملاحقات الأمنية لهم، أخطر ما تواجهه الحركة الطلابية والبلاد بوجه عام. تدخل الرواية منعطفًا جديدا بارتباط عبد الناصر بزينة سرًا، وتتوالى الاحداث إذ تدخل زينة معترك الحياة للتدريس فيقتل طموحها الدراسي كل حماستها السابقة لحياتها الزوجية وعلاقتها بالطلياني ورحلتها معه، رغم الشعور الداخلي الغريب لكل منهما تجاه الآخر، والذي ظل يرافقهما إلى فترة طويلة، ويجمعهما سويًا تحت سقف واحد، فيما يتخرج عبد الناصر من كلية الحقوق مع تزامن تصدع علاقته بزينة، وهو ما يؤدي إلى تحوّل في شخصيته عندما يدخل عالم الصحافة. وهنا يفتح شكري المبخوت ملف الصحافة القذر في أواخر عهد بورقيبة: الحصار الرقابي، والتملق، والتسلط السياسي حيث يجد الطلياني نفسه، ودون قرار، ينجر في هذا التيار، خاصة أنه يتحول مع الوقت ليكون الصحافي الأهم في الجريدة الناطقة باسم الحكومة، في وقت تزداد فيها الهوة بينه وبين زوجته، ما دفعه لعلاقات عاطفية وجنسية متعددة، بينها واحدة مع أعز صديقات زينة، حيث يتنقل من جسد إلى جسد في رمزية لانتقاله من فكر إلى آخر مع رحيل بورقيبة، واستلام بن على زمام الأمور. بعد طلاق عبد الناصر من زينة، يدخل الطلياني رغم نجاحه في عمله كمراسل لجريدة اجنبية مرحلة من العبثية والتفسخ الاخلاقي، سبقها تعرض زينة لتحرش جنسي من استاذها الجامعي المشرف على بحث تخرجها الذي من أجله أهملت حياتها الزوجية، لتتحول من قوائم الشرف إلى قوائم الراسبين، بعد أن رفضت تحرش أستاذها بها، بل وضربته بعد ترسيبها، ما جعل إدارة الجامعة تحولها إلى التحقيق، فطلبت الطلاق، وهجرت البلد، لترتبط بأكاديمي أجنبي في الخارج، عمره ضعف عمرها. يتواطأ عبد الناصر، بشكل أو بآخر مع المستجدات الجديدة، ويعيش التناقض بين مبادئه التي كان يعتنقها والحياة الجديدة التي يعيشها "لأنني اعتدت أن اعيش منذ صغري على أن تكون لي حياة مزدوجة". ويتعرف "الطلياني" على ريم في مرحلة ما بعد طلاقه من زينة، وبعد جنينة وانجيلكا وبعد نجلاء صديقة زينة قبل الطلاق، يصل المبخوت إلى الحدث الذي يرجعنا للسؤال الأول: لماذا ضرب عبد الناصر الشيخ علالة، ليكشف أن الطلياني، وحين كان في سن الثانية عشرة، قامت زوجة الشيخ، وعلى إثر خلاف كبير مع زوجها الذي كان يعمل عند والدها الثري، بهجره والعيش في منزل والد ووالدة عبد الناصر، صديق والدها وجاره.. ومع الوقت بدأت تداعب الطلياني الطفل آنذاك حتى تطورت الأمور إلى علاقة جنسية كاملة لأكثر من ثلاثة إلى أربعة أعوام، كان لا يزال فيها عبد الناصر طفلًا، علمًا بأن شقيق الطلياني الأكبر صلاح الدين هو من كان فض بكارة زوجة علالة قبل زواجها من الشيخ المفترض. والصاعق أن الشيخ علالة حاول اغتصاب الطلياني في أكثر من مرة، لعله يخرج من عقدة "الإمام العاجز جنسيًا"، وكان حينها في سن السادسة، فجاءت العلاقة الجنسية بين الطلياني وزوجة علالة، ومن ثم ضربه، كنوع من الانتقام له الكثير من دلالاته الرمزية في سياق الرواية التي تعالج حقبة ضبابية في التاريخ التونسي الحديث. في الفصل الأخير من الرواية، تطفو ذاكرة الطلياني الطفل الموشومة بمحاولات الاغتصاب على السطح، فيخرج السرّ الذي كان يعتمل في لا شعوره بصيغة عمل عنيف غير مبرر، ظل تساؤلًا يرافق قارئ الرواية حتى أسطرها ما قبل الأخير، إضافة إلى ما كان يعتمل في داخله من خلال حكاية عشيقته زينة، ذات الأصول الريفية، المغتصبة هي أيضًا، دون أن تعلم هوية مغتصبها، وإن كانت تشك في أنه قد يكون والدها أو شقيقها. هكذا يتحوّل فعل الاغتصاب في الرواية إلى بؤرة دلالية لا تشمل الذوات، وإنّما تطال الفكر والموقف والسياسة: سياسة انكشفت ألاعيبها لعبد الناصر الصحافي في إحدى الجرائد الناطقة بالفرنسية من خلال ما يدور داخل دوائر قراصنة الإعلام والمال والسياسة التابعين لسلطة الحاكم من تحالفات بغيضة وصراعات دفينة، آلت إلى الانقلاب على نظام بورقيبة والتبشير بالعهد الجديد، من خلال بيان واهم يلوّح بالتغيير. ورغم كون "الطلياني" هي أول أعمال الكاتب التونسي شكري المبخوت، إلا أنه عكس طاقات سردية كأمنة لدى الأكاديمي والناقد بالأساس، وقدرته على إدارة الرواية بشكل جيد، حيث استطاع عكس البراعة في بناء عمله الروائي، وبراعة التوازن بين الخاص والعام، وهو يورد العديد من الأحداث التونسية بتواريخها المحددة. وقد بدأ الرواية من تصرف الطلياني، لكي يجعل القارئ يلهث مسرعا حتى ينتهي من قراءتها ويكتشف السر. وربما أجمل ما في هذا العمل أن الكاتب يترك الكثير لخيال القارئ حتى يستكمل الأحداث التي يعرفها أو سمع عنها، ولا بد أن يصاب القارئ بالصدمة من هول الفساد المستشري في الدولة، أي دولة، وخاصة من خلال ما يكشف رئيس التحرير للطلياني الذي يعمل معه في صحيفة رسمية. في رواية الطلياني تتشابه الهموم بداخلها في جميع الأوطان العربية في تلك الحقبة الزمنية، حيث تلخص الأوضاع الماضية والراهنة في بعض البلدان الأخرى، فالقمع والجهل والتطرف آفة علينا جميعًا التخلص منها. الطلياني المبخوت من مواليد تونس عام 1962. حاصل على دكتوراة الدولة في الآداب من كلية الآداب بمنوبة ويعمل رئيسا لجامعة منوبة. عضو في العديد من هيئات تحرير مجلات محكّمة منها مجلة "إيلا" التي يصدرها معهد الآداب العربية بتونس ومجلة Romano Arabica التي يصدرها مركز الدراسات العربية التابع لجامعة بوخارست، رومانيا. له العديد من الإصدرات في النقد الأدبي. "الطلياني" روايته الأولى.