تظهر لنا الأزمات الاقتصادية، التى يمر بها العالم بين فترة وأخرى، مدى الترابط المالى والتجارى بين مختلف دول العالم، وأظهرت لنا أزمة داعش مدى الترابط الأمنى بين مختلف دول العالم، لا يمكن لأى سياسى يعيش فى أوروبا أو أمريكا أو شرق آسيا أو حتى روسيا وأستراليا، أن يتجاهل ما يحدث فى منطقة الشرق الأوسط، فحتى لو كان بعيدًا عن النيران فستصله حرارتها، لأن الحدود الحقيقية بين دول العالم سقطت، والحواجز ألغيت، وإلا كيف يمكن أن نفسر قدرة هذا التنظيم الذى لم يتعد عمره العشر سنوات على استقطاب مقاتلين من 80 دولة حول العالم، وحشد أكثر من 30 ألف مقاتل، مستعدين للموت ولارتكاب أبشع أنواع الفظائع والقتل التى شهدها العالم فى العقود الأخيرة؟ لا يمكن فصل البنية العسكرية عن البنية الفكرية التى قام عليها هذا التنظيم وأيضًا عن الظروف والبيئة التى تساعده دومًا على الظهور فى مناطق مختلفة من العالم. «داعش» ليس منظمة إرهابية فقط، بل هو فكرة خبيثة.. ولا يمكن هزيمة فكرة خبيثة باستخدام التحالفات العسكرية فقط. لقد أثبت «داعش» أن العالم أصبح اليوم أكثر عولمة من أى وقت مضى. داعش منظمة إرهابية بربرية وحشية لا تمثل الإسلام، ولا تمثل أيضًا الحد الأدنى من الإنسانية الحقيقية. ولكن التغلب على هذا التنظيم ليس بالسهولة التى يمكن أن يتوقعها الكثيرون. البنية العسكرية للتنظيم يمكن هزيمتها خلال الفترة القريبة القادمة بالإمكانيات المتوافرة لدى التحالف الدولى الجديد، والإمارات ستكون جزءًا فاعلًا فى هذا التحالف، بالتعاون مع الدول التى يمكنها تحمل مسئوليات هذا الخطر الجديد. ولكن ماذا عن البنية الفكرية لهذا التنظيم؟ لا يمكن فصل البنية العسكرية عن البنية الفكرية التى قام عليها هذا التنظيم وأيضًا عن الظروف والبيئة التى تساعده دومًا على الظهور فى مناطق مختلفة من العالم. داعش ليس منظمة إرهابية فقط، بل هو فكرة خبيثة. الأيديولوجيا التى قام عليها «داعش» هى نفسها التى قامت عليها القاعدة، وهى نفسها التى قامت عليها أخوات القاعدة فى نيجيريا وباكستان وأفغانستان والصومال واليمن وفى بلاد المغرب العربى وفى بلاد الجزيرة العربية، وهى نفسها التى بدأت تضع بذورًا لها فى أوروبا وأمريكا وغيرها من بلاد العالم. «داعش» ليس منظمة إرهابية بل هو تجسيد لفكرة خبيثة، ولا يمكن هزيمة فكرة خبيثة باستخدام التحالفات العسكرية فقط. لعل هذا الفكر الخبيث، وما سينتج عنه، هو أسوأ ما سيواجهه العالم خلال السنوات العشر القادمة. هناك فكر جاهز ومعلب وله صبغة دينية، يمكن أن تأخذه أى منظمة إرهابية، وتحشد له آلاف الشباب اليائس أو الحاقد أو الغاضب، وتضرب به أسس الحضارة والمدنية والإنسانية التى يقوم عليها عالمنا اليوم. أكثر ما يقلقنى أن هذا الفكر الخبيث الذى قامت عليه القاعدة بأدواتها البدائية من كهوف أفغانستان واستطاعت أن تزعزع به أمن العالم وتقلق راحته هو الفكر نفسه الذى يقوم عليه «داعش» اليوم، ويستند فى تنفيذه إلى أدوات تكنولوجية متقدمة وموارد مالية ضخمة ومساحة جغرافية هائلة تعادل حجم المملكة الأردنية، ومشاركة جهادية واسعة من مختلف مناطق العالم، ما يؤشر أن العالم فشل فى مواجهة الفكر الخبيث، وأن التحدى أكبر بكثير مما نتوقع، لأن هذا الفكر أصبح أكثر تشددًا وأكثر وحشية وأوسع انتشارًا من النسخة السابقة له. لست متشائمًا بطبعى، بل أنا متفائل، متفائل لأن العالم بدأ يتوحد ويعمل بطريقة متناسقة لمواجهة هذا التحدى، ومتفائل لأن قوة الأمل والرغبة بالاستقرار والازدهار عند الشعوب أكبر بكثير وأقوى بكثير من هذا الفكر الخبيث، ومتفائل أيضًا لأن العالم مر عليه فى تاريخه الحديث والقديم من هو أسوأ من داعش وأخواتها، وانتهى بهم الأمر فى صفحات التاريخ السوداء. لعل إحدى حسنات «داعش» وإيجابياتها أنها وحدت العالم، وجمعت الأضداد، وجعلت الجميع يضع خلافاته جانبًا ليواجه هذا الخطر المتنامى بهذا الاستعجال الإيجابى. وأتمنى أن يستمر العالم بنفس الروح وبنفس التصميم للتغلب على جميع التحديات المشتركة التى تواجه العالم. أما بالنسبة إلى مواجهة هذا الخطر، فبالإضافة إلى العمل العسكرى، والحصار المالى والإعلامى، وقطع الموارد، وإغلاق المنافذ، وضرب مراكزه وقياداته، يمكن التغلب على «داعش» وغيرها من المنظمات الإرهابية عبر ثلاثة محاور إضافية: أولًا: لا بد من مواجهة هذا الفكر الخبيث بفكر مستنير، منفتح، يقبل الآخر ويتعايش معه، فكر مستنير من ديننا الإسلامى الحنيف الصحيح الذى يدعو إلى السلام، ويحرم الدماء، ويحفظ الأعراض، ويعمر الأرض، ويوجه طاقات الإنسان لعمل الخير ولمساعدة أخيه الإنسان. إن الشباب الانتحارى الساعى للموت بسبب إيمانه بفكرة خبيثة لن يوقفه إلا فكرة أقوى منها ترشده لطريق الصواب، وتمنعه من الانتحار، وتقنعه بأن الله خلقنا لعمارة الأرض وليس لدمارها. ولعلى هنا أشيد بتجربة إخوتنا فى المملكة العربية السعودية فى هذا المجال، وقدرتهم الكبيرة على تغيير قناعات الكثير من الشباب عبر مراكز المناصحة التى أنشأوها. ولعل المملكة بمفكريها وعلمائها وما تمثله من مكانة روحية وفكرية لدى المسلمين هى الأقدر والأجدر والأفضل لقيادة هذا التغيير الفكرى. ثانيًا: الحكومات القوية المستقرة الجامعة التى تركز على تقديم خدمات حقيقية لشعوبها دون تفرقة، هى أيضًا أحد الحلول المهمة للقضاء على البيئة التى تنشط فيها مثل هذه التنظيمات. ولعله ليس سرا أن الصعود السريع ل«داعش» جاء بسبب حكومتين فى المنطقة، واحدة تقتل شعبها وأخرى تفرق بينهم على أساس طائفى، مما مثل البيئة المثالية لصعود مثل هذا التنظيم واجتذاب آلاف المقاتلين وتوفير التبرير لقتل المزيد من المدنيين من أبناء الطوائف الأخرى. هناك عدم استقرار وتحديات جدية تواجه عديدا من الحكومات الأخرى فى المنطقة، لا يمكن تجاهل ذلك، لأنه سيوفر بيئة مثالية وفراغًا تملؤه مثل هذه التنظيمات الإرهابية فى أكثر من دولة. ثالثًا: لا يمكن للعالم تجاهل الإخفاقات التنموية فى العديد من مناطق الشرق الأوسط. هى مسئولية عالمية وعربية ولا بد من مشاريع ومبادرات فعالة لعلاج مثل هذا الخلل. التنمية الشاملة، وتحسين التعليم والصحة، وتوفير البنية التحتية، وتطوير الفرص الاقتصادية هى حلول طويلة الأمد ومضمونة لمثل هذه التحديات. التنمية المستدامة هى أكثر الحلول استدامة لمواجهة الإرهاب. هناك 200 مليون شاب فى منطقتنا، إما أن نغرس فيهم الأمل ونوجه طاقاتهم لتغيير حياتهم وحياة من حولهم للأفضل، وإما أن نتركهم للفراغ والبطالة والأفكار الخبيثة والمنظمات الإرهابية. إن التطور الاقتصادى والتنموى وتوفير فرص العمل ورفع مستوى المعيشة لا تترك أى مبرر أو معنى لقيام تنظيمات إرهابية قوية حتى وإن تم تجنيد بعض الشباب هنا وهناك. لا توجد قوة أكبر من قوة الأمل بحياة ومستقبل أفضل. قبل فترة سألنى أحد المسئولين العرب عن هدف دولة الإمارات من إطلاق أول مسبار عربى للمريخ وفائدته للمنطقة، قلت له نريد أن نبعث برسالة أمل إلى 350 مليون عربى. نحن قادرون على استعادة مستقبلنا ومسابقة العالم من حولنا إذا أردنا ذلك. ** هذا المقال نقلاً عن صحيفة البيان الإماراتية