طفلة فلاحة من أسرة متدينة، لا تعرف أنها تمتلك صوتا قويا وفريدا، تكتشف ذلك بالصدفة، من الآخرين، وهكذا استكملت مسيرتها: الاستشارة بالآخرين، ربما كان ذلك المبدأ والشعار، سببا رئيسيا فى استمرارها، وتألقها، وتشكل ظاهرتها الفنية، إلى الآن. حتى بعد وفاتها، وبعد أن أصبحت مدرسة موسيقية، ومجالا للكتابة والنقد والتحليل، والذى انحرف إلى التمجيد والتعظيم، تناسى الكثير، التطرق إلى من يقف وراء الست؟ البعض رأى فقط فرقتها الموسيقية، هى من تقف وراءها، ولكن من كان يدعمها، يوجهها، يأمرها، يخطط لها.. الجميع تفنن فى تفنيد وذكر سيرة الست وعظمتها، وكيف استطاعت أن تحافظ وتطور الموسيقى الشرقية، وكيف جددت، وثارت وأبدعت، دون الالتفات إلى جنودها المجهولين، وهم أساس تجربتها، وأصحاب الفضل فى نضوجها وشهرتها. والدها ووالدتها، أول الجنود المجهولين فى تجربة أم كلثوم، فبعد ممانعة الأب فى احتراف ابنته للغناء، اقتنع بأسباب زوجته، فى أن تصبح ابنته منشدة دينية، إلى أن وقف دعم الثنائى، عند رغبة أم كلثوم فى سلك طريق آخر فى الغناء: خارج الإنشاد، وهو ما كان سيعتبر «عارًا» على الأسرة، لولا أنها وفريق عملها الجديد، استندوا إلى قوة اجتماعية ومادية سهلت من إقناع والدها بالتحول، أو بمعنى أدق «يتركها لحالها»، حتى ولو لم يرض. الفريق الجديد للست، تكون من عدة عقول، وأصحاب نفوذ وفكر، بداية من الشيخ أبو العلا محمد، أول من اعترف بها، وسلمها إلى أوصياء آخرين، مثل الشيخ زكريا أحمد ورياض السنباطى، اللذين لازماها بقية تجربتها الفنية، بالدعم والعمل والمشورة وكذلك الأوامر، إلى أن بدأت فى التحرر من سجنهم، فى مرحلتها الأخيرة، التى تعاونت فيها مع فريق عمل «تحت طوعها»، مثل بليغ حمدى، محمد عبد الوهاب، سيد مكاوى وغيرهم. ومن أهم فريق عمل الآنسة، هو على بك البارودى، صاحب التأثير الأكبر على أم كلثوم، والذى تسلمها «فلاحة»، وحولها إلى سيدة مجتمع، بعد أن «وزعها» على أصحاب المسارح والكازينوهات، لكى تتحرر من الإنشاد الدينى، والتفكير القروى، إلى رسم هيئة مميزة وحديثة لها، بدلا من «العباءة والعقال»، والزى الرجالى الذى كانت ترتديه، لتظهر أم كلثوم لأول مرة دون غطاء وبالفستان، لتصبح بعد ذلك مطربة سوق، محترفة، وهانم. بعد ذلك، انضم إلى فريقها الشاعر أحمد رامى، الذى شغل منصب مستشار فني، وأحيانا أخرى مدير أعمالها، إلى وفاته، وبدون مقابل، سوى نظرة رضا من الست، هو من يكتب، هو من يرشح الملحن، ومن يقابلها ومن يعرض عليها أفكارا جديدة، وظلت أم كلثوم هكذا إلى وفاتها، تنفذ بصوتها أوامر أوصيائها، وحاشيتها «الموهوبين»، وذلك لا يقلل من قيمتها أو مسيرتها الفنية، ولكنه يشير إلى الصورة الكاملة، والمناخ الحقيقى، الذى ساعد فى أن تكون «الست». ويفسر ذلك سبب تطور وتكيف أم كلثوم مع السوق، فمن الإنشاد الدينى، إلى الغزل الذى بدأته بالجرأة الشديدة كأغنيتها النادرة «الخلاعة مذهبى»، مرورًا بالغزل والأغانى الوطنية والسياسية، إلى العاطفية التجارية فى نهاية المطاف، مع التكيف الموازى فى اختيار الكلمات والألحان والموسيقى وكذلك الأزياء. والمفارقة، أنه لم تضم حاشيتها أبدا، معدوما للموهبة أو للثقة، وربما يكون ذلك دلالة على ذكائها فى تسليم موهبتها لأيدٍ أمينة، فجميعهم كان لديهم إخلاص وولاء وحب شديد لها، يعطونها دون حساب، وبعضهم حرم نفسه من تجارب أخرى، بل حرموا أنفسهم من تجاربهم لأنفسهم من أجلها، والباقى ألغى نفسه تماما لصالحها، وقدرت أم كلثوم ذلك، وحرصت على التعامل معهم بمبدأ «الشد والرخى»، تراضى هذا وتقسى على آخر، تقرب وتبعد، ولكن فى النهاية تحرص على ألا تخسر أحدهم إلا بخسارته حياته.