اكتب.. لكن في مفكرة السجن! ثم سأله: حضرتك هنا من أجلي؟ رد الضابط: نعم.. وقد عرفنا من الإسكندرية أنك غادرتها بهذا القطار! قال التابعي للضابط: هل تسمح لي بالمرور على بيتي لكي أترك حقيبتي.. وأخذ ما يلزمني من الملابس في السجن.. لأن الحكم ضدي بالحبس البسيط.. أي أني في وسعي ارتداء ملابس عادية؟ ولم يمانع الضابط.. وصحبه أمير الصحافة إلى بيته.. حيث وضع التابعي في حقيبته عدة بيجامات وروب دي شامبر.. وأراد وضع ماكينة حلاقة الذقن.. لكن الضابط اعترض.. وقال له غير مسموح بدخول اية آلة حادة مثل موس الحلاقة إلى السجن.. خوفا من أن يستخدمها السجين في الانتحار. وهنا سأل التابعي الضابط: هل تسمح لي اذن بأن أقضي الليلة في بيتي.. وأذهب بنفسي في الصباح إلى السجن ؟ لكن الضابط رفض وكان معه الحق.. وقال التابعي: لقد انقضى اليوم.. وسوف نذهب معًا إلى المحافظة حتى تمضي الليلة هناك.. لأن السجن يغلق أبوابه في الساعة السادسة مساء.. وسوف يحسب لك يومنا هذا من مدة العقوبة المحكوم بها عليك. واقتنع التابعي بكلام الضابط.. وذهب معه إلى مبنى المحافظة في باب الخلق. في المحافظة.. وضعوا لأمير الصحافة مرتبة على أرض حجرة الضابط النوبتجي.. ونام ليلتها على الارض نوما عميقا. وفي نحو السابعة صباحا.. شعر التابعي بيد توقظه برفق.. وفتح عينيه ليجد السيدة روز اليوسف.. وقد أحضرت له معها ترموس مملوء بالشاي واللبن.. وكيسا فيه برتقال وتفاح. وكان لابد من اتخاذ بعض الإجراءات قبل دخول التابعي السجن.. وقد استغرقت هذه الإجراءات نحو ثلاث ساعات.. وفي العاشرة صباحا.. وقف التابعي أمام محكمة باب الخلق يودع السيدة روز اليوسف.. ثم ركب معه الضابط سيارة حملتهما إلى سجن مصر.. الذي كان يعرف وقتها بسجن "قرة ميدان".. وفي السجن اقتادوا التابعي مباشرة إلى مكتب البكباشي محفوظ ندا مأمور السجن وناوله التابعي ساعة يده الذهبية ومحفظة جيبه.. وكان فيها بضعة جنيهات.. وعلية سجائر "معدن ملوكي" لأن التدخين كان ممنوعا في جميع السجون.. وابتسم امير الصحافة لنفسه في تلك اللحظة وهمس لنفسه: ربما هي الفرصة الآن لكي اكف عن التدخين. وبدأ تطبيق أول لوائح السجن على السجين أمير الصحافة. فتم استدعاء حلاق السجن.. الذي قص له شعره "نمرة واحد". ثم ادخلوه الحمام ليستحم.. وخرج من الحمام ليقتادوه إلى زنزانة في الدور الأول. ودخل التابعي الزنزانة.. ونظر فشاهد "البورش" على الارض.. ومن فوقه مرتبة محشوة بالقش.. ومخدة أيضا من القش.. وبطانية صوف من النوع الذي يستعمل في الجيش. وفي أحد أركان الزنزانة كان هناك "جردل" ماء. لكن التابعي كان يعاني من مغص كلوي قديم، ولذلك سمحت له إدارة السجن بشرب الماء المعدني، ولكن من ماله الخاص، وكان يحضرون له كل يوم زجاجة ماء ايفيان.. وكان ثمنها ايامها خمسة قروش. وقضى التابعي أول ليلة في السجن.. وفي صباح اليوم التالي زاره الدكتور عبد المجيد محمود كبير أطباء مصلحة السجون.. وكان صديقا قديما له. وقام الدكتور عبد المجيد بإجراء فحص طبي على التابعي، وكان يريد أن يخفف عنه ولو قليلا من حياة السجن. واكتشف الدكتور في التابعي أمراضا لم يكن يعلم أنه مصاب بها. فقد اكتشف أنه مصاب بلغط في القلب.. وبانخفاض ضغط الدم. وأمر كبير أطباء السجون بأن يضعوا للسجين المريض فراشا في الزنزانة.. والى جانبه مائدة صغيرة عليها قطعة رخام. كما أمر بأن يكون له طعاما خاصا، عبارة عن قهوة ولبن وقطعة من الجبن أو الحلاوة الطحينية في الافطار. وكان التابعي يتناول افطاره في الزنزانة في السادسة صباحا اما الغداء فكان عبارة عن شوربة عدس وكبده.. أو لحم مشوي وأرز.. وفاكهة الموسم وكانت وجبة الغداء تقدم له نحو الثانية عشرة ظهرا.. وكانت وجبة العشاء مماثلة في السادسة مساء. ومرة واحدة كل أسبوع كانوا يقدمون للسجين أمير الصحافة نصف دجاجة "رستو" في طعام الغداء لكن لم يكن مسموحا له بالأكل بالشوكة والسكينة. خوفا من أن يستغل السكين في الانتحار. كانوا فقط يقدمون له.. ملعقة. وكان التابعي يستخدم الملعقة في تناول الشوربة والارز. اما الكبدة واللحم المشوي أو النصف دجاجة.. فكان يمزقها ويأكلها.. بيديه. وبدأت حياة أمير الصحافة في السجن. ولم يكن للسجناء في جرائم الصحافة والنشر في تلك الأيام أية معاملة خاصة، فكانوا يلبسون ثياب السجن، وينامون على "البرش". لكن التابعي تم إعفاؤه من ارتداء ملابس السجن، لأن الحكم عليه كان بالحبس البسيط.. وسمح له بارتداء البيجاما وفوقها الروب دي شامبر. ولم يكن مسموحا بقراءة الصحف أو تدخين السجائر. لكنهم سمحوا للتابعي بقراءة القصص والكتب الادبية والدينية. وأعطوه كراسة عليها خاتم مصلحة السجون.. وصفحاتها تحمل أرقاما مسلسلة. وقالوا له: تستطيع أن تكتب في هذه المفكرة كل شيء.. ما عدا السياسة. لكن "مخابرات" روز اليوسف برئاسة مصطفى أمين استطاعت أن تنفذ من وراء القضبان إلى داخل السجن.. وهكذا كان التابعي يتلقى كل يومين في السجن علبه سجائر.. كان ثمنها في السوق في تلك الايام ستة قروش.. لكن تكاليف توصيلها إلى داخل السجن.. كانت ترفع ثمنها إلى ثمانين قرشا. ولم تكن السجائر فقط هي التي يتم تهريبها للتابعي في السجن. كان كل أسبوع يتلقى ورقة صغيرة.. أحيانا بخط "روز اليوسف" واحيانا بخط مصطفى أمين.. وكانت هذه الورقة تحمل رءوس أهم الاخبار التي حدثت ولم يعلم عنها التابعي شيئا لأنه في السجن وكان طبيب السجن يتعاطف معه.. فكان كل فترة يأمر باستدعائه إلى مكتبه بحجة الكشف عليه ثم يقدم القهوة والسجائر ويقص عليه اخبار البلد والدنيا. وحدث ذلك يوم.. أن تمكنت "روز اليوسف" من تهريب كمية من حلوى "البتي فور" إلى التابعي داخل السجن.. ولم يجد مكانا يخفيها فيه سوى جيوب "الروب دي شامبر" الذي يرتديه. لكن مفاجأة حدثت.. فقد فوجئ التابعي بالبكباشي محفوظ ندا مأمور السجن يدخل عليه الزنزانة فجأة وبدون مقدمات. وكان رائحة "البتي فور".. تفوح من جيوب روب دي شامبر التابعي. وشم مأمور السجن رائحة الحلوى.. لكنه كان يحب التابعي.. فسأله إذا كان لديه ما يشكون منه أو إذا كان في حاجة إلى شيء.. لكن التابعي شكره، فغادر المأمور الزنزانة وعلى شفتيه ابتسامة خفيفة. فقد كانت رائحة "البتي فور" قد فاحت في الزنزانة كلها.. من جيوب روب دي شامبر أمير الصحافة.