عندما انخفضت مؤشرات أسعار البورصة أخيرا، كان أمل المتعاملين - كما يجب في مثل هذه الظروف - أن ينعكس الاتجاه بسرعة وتعود الأسعار للارتفاع. يأملون فقط، لكن لا يستطيع أي منهم التحكم في اتجاه الاسعار. وقد استمر الهبوط مثلما استمر الصعود قبل ذلك دون أن يتمكن أحد من التنبؤ بنقاط الانعكاس. وفي دوامة الانخفاض الأخيرة سمعنا شيئاً سبق أن سمعناه في أزمة الركود عام 1997 وما تلاه، سمعنا عما يسمي صانع السوق، وقرأنا لمن ينعي علي البورصة المصرية أنها لم تنضج بعد ولم يتكون فيها ذلك الصانع. ما حقيقة صانع السوق هذا؟ يتصور المتعاملون أنه قوة مالية كبيرة قادرة علي التدخل مشترية لإيقاف تدهور الاسعار تصور أقرب إلي ما يفعله بنك مركزي عندما يتدخل لشراء عملة ينخفض سعرها بصورة يخشي معها أن تتأثر كفاءة السوق. نسي هؤلاء أن البنك المركزي مثلما يتدخل بالشراء في حالة انخفاض السعر قد يتدخل بالبيع في حالة ارتفاعه، لكن ما يلفت النظر أننا لا نسمع عن صانع السوق إلا عندما تنخفض الاسعار بشدة. لم يطالب أحد بتدخل مثل هذا الصانع عندما ترتفع الأسعار بشدة وربما بلا مبرر. ومهما يكن من أمر فإن مثل هذا التدخل لا يجوز أن يحدث في البورصة. هذا يتنافي مع طبيعة البوصة كسوق تنافسية تعتمد علي وجود اعداد كبيرة من البائعين والمشترين، يتعاملون في شفافية تتيح لهم جميعا نفس المعلومات عن الأوراق المتداولة. ولا تتوفر لفرد واحد أو لهيئة واحدة قوة تمكنها من التحكم في الاتجاه العام للأسعار وتضع البورصات ضوابط تضمن حرية المنافسة. تفرض قيودا علي حق الشركات في شراء وبيع أوراقها، وتوقف تداول أية أوراق تححب المعلومات بشأنها، وتوقف التداول عموما عندما تحدث تحركات غير طبيعية وفي النهاية يتحرك العرض والطلب لكل ورقة مستقلة عن غيرها ولا يكون الاتجاه العام سوي مجموع هذه التحركات المستقلة، دون أن تتحكم فيه قوة واحدة من أي نوع. ودعوة اليوم إلي ايجاد صانع للسوق مثلها مثل نظيرتها في فترة الركود الكبير بعد عام 1997 موجهة إلي التأمينات الاجتماعية وبغض النظر عن المخاطرة بالأموال العامة فالدعوة في جوهرها تطالب الدولة بالتدخل ضد فلسفة حرية السوق وقد قبلنا اقتصاد السوق ونشكو أن السوق ليس حرا بما فيه الكفاية، وحرية السوق ليست موقفا انتقائيا نختاره في لحظة ونرفضه في لحظة أخري. المشكلة الحقيقية هنا ليست افتقاد صانع السوق بل افتقاد روح هذه الحرية، التي تعني قبول المخاطرة. ومن يقبل المخاطرة يقبلها بحلول ومرها وهي حسابات من يخطيء فيها يتحمل خطأه، ويتعلم من حركة السوق ذاتها كيف يصحح حساباته. والاستثمار في البورصة أنواع: هناك استثمار قصير الأجل، يتجه للمضاربة سواء علي صعود الأسعار أو نزولها. وهناك استثمار للأجل الطويل يحصل علي عائد من أرباح الشركات التي يختار أوراقها، يتوقع أن يزيد علي فائدة الودائع، كما يحصل تلقائيا علي عائد من ارتفاع قيمة الأوراق المختارة ذات الأداء الجيد. ولو تابعنا ما حدث منذ عام ،1997 لاحظنا سيادة المضاربة والاستثمار قصير الأجل. نتجت عن ذلك ظاهرة مازالت تتكرر، إذ يحدث اتجاه صعودي كل عام في نفس الفترات تقريبا، في يناير وفبراير ثم في يوليو وأغسطس تتحرك هذه الفترات للأمام والخلف وتغير مداها الزمني لكنها تتكرر سنويا حتي الآن. وقد استجدت عوامل تصنع موجات أقل حدة في شهور أخري بدون انتظام، واستمر وجود العوامل التي تحدث الأثر المنتظم. وكان تداخل هذه وتلك سببا في موجة الصعود القوية غير المسبوقة في موعد أول موجة منتظمة لهذا العام وكان علي المتعامل الذكي أن يدرك أنها كأي موجة ستكتمل بأن تعكس اتجاهها والموجة صعود وهبوط، ولا يستمر اتجاه الصعود أو الهبوط فقط إلي ما لا نهاية. المضاربة هي السبب في تلك الموجات، وهي عمليات تمتزج فيها الحسابات والتوقعات والشائعات والحالة النفسية. هذه أمور معروفة وتحدث في كل البورصات. ولا يضارب فرد أو قوة واحدة علي جميع الأوراق وإنما ينتقي منها ما يري بشأنه رؤية صحيحة أو خاطئة أو وهمية تجعله يعتقد أن سعرها يتجه إلي الصعود أو إلي الهبوط نظرا لأداء قوي أو أداء سييء من نوع ما في الشركة المصدرة لها أو في شركات منافسة. وقد تكون رؤية المضارب سليمة ويتحقق تنبؤه وقد تكون خاطئة فيحدث العكس. وإذا كانت ترتبط شائعات فسينتج عن ذلك اتجاه مصطنع سرعان ما ينعكس لأن من بدأوه يعرفون الحقيقة قبل غيرهم. وهناك قواعد للاسترشاد بها في تلك الظروف، تنطبق رغم ارادة الجميع. في حالة النزول يسارع بالبيع من كانوا يضاربون علي الصعود. لا نلومهم ولا نعتبر سلوكهم كسلوك القطيع، إنما هو سلوك رشيد له ما يبرره. لقد اشتروا في انتظار ارتفاع الاسعار كي يبيعوا، وسيستمرون في البيع مادام لم يصل انخفاض السعر إلي المستوي الذي اشتروا عنده. ومنهم من يستمر في البيع بعد هذا لو تحول إلي المضاربة علي النزول، حيث يقبل خسارة صغيرة يتوقع