الهند ليست بلداً مثل سائر البلدان.. صحيح أن البلدان مثل النساء لا تتشابه، لكن اختلاف "الأعراض الهندية" حكاية أخري، وربما استثنائية أيضاً. فنحن أولاً وقبل كل شيء لسنا إزاء مجرد دولة، وإنما نحن في حضرة شبه قارة، أو بالأحري "دولة قارة"، تبلغ مساحتها 3287 مليون كيلومتر مربع، وتضم 28 ولاية و7 أقاليم اتحادية، يصلح كل منها في غير الحالة الهندية أن يكون دولة بذاتها، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن عدد سكان الولاية الهندية الواحدة يبلغ أضعافاً مضاعفة لكل دول الخليج مجتمعة. فما بالك وأن هذه "الدولة القارة" يقطنها أكثر من مليار نسمة، يعني أكثر من سدس البشرية، وكل فرد من هذه الجيوش الجرارة يحتاج إلي مأكل ومشرب وملبس ومسكن وتعليم وعلاج وفرص عمل وترفيه... إلخ. ونحن ثانياً لسنا إزاء مجرد دولة شاسعة الاتساع جغرافيا، ومأهولة برقم فلكي من البشر ديموجرافيا، وإنما تتوزع هذه التركيبة السكانية الهائلة في أعراق شتي وديانات عديدة ولغات كثيرة، يكفي وجودها وتنوعها وتشابكها لإصابة أقوي دولة بصداع مزمن بل وقصم ظهر أعتي دولة. ثم إن هذه "الدولة القارة" التي لم تحصل علي استقلالها إلا في 15 أغسطس 1947 قد عانت من الاستعمار البريطاني الطويل والثقيل، وورثت عن هذه الحقبة الاستعمارية تركة مثقلة بالقنابل الموقوتة، وهذا الميراث الاستعماري لا تقتصر تحدياته علي قنابل زمنية داخلية وإنما تشتمل أيضاً علي ألغام إقليمية مع دول الجوار بدرجات مختلفة. فمن أية صفحة تبدأ قراءة كتاب الهند الضخم، ومن أي باب من آلاف الأبواب تدخل هذا العالم الهندي المسحور؟ "بوابة الهند" الشهيرة.. قوس نصر تذكاري مهيب ينتصب في قلب العاصمة نيودلهي تخليداً لذكري 90 ألف جندي هندي فقدوا حياتهم في الحرب العالمية الأول، وهي حرب لم يكن لهم فيها ناقة ولا جمل. هذه البوابة المهيبة، والتي تعد أحد المزارات السياحية المهمة في الهند، تقع في منطقة باهرة الجمال، وتضم حدائق غنّاء وقصوراً أنيقة، منها قصر البرلمان وقصور الحكم، وهي منطقة تذكرك بالأبهة الإمبراطورية لعاصمة بلاد الإنجليز.. لندن. لكن خبراتي في الأسفار علمتني ألا أدخل أي بلد من مثل هذه البوابة الرسمية المهيبة.. وبما أنني فلاح الأصل والفصل قررت أن أدخل الهند من بوابة الريف للتعرف علي بلاد "بهرات"، وبهرات هي أحد الأسماء التاريخية القديمة للهند، وهو اسم باللغة السنسكريتية مكون من مقطعين "بهاء" ويعني المعرفة أو الضوء و"رات" الذي يرادف الفعل "يعمل". أي أن "بهرات" تعني الشخص الباحث عن المعرفة. وشددت الرحال بالفعل إلي ريف ولاية "أوتار براديش"، وأذهلني التشابه العجيب بين القري الهندية والقري المصرية، نفس الطراز المعماري العشوائي الساذج، ونفس البيوت التي تتراوح بين الطين والطوب الأحمر، ونفس الحواري أو "المدقات" الطينية غير الممهدة وغير المنتظمة، ونفس الفلاحين الغلابة وأبنائهم الحفاة، ونفس الفلاحات حمالات الحطب، بل وأيضاً حمالات روث البهائم الذي كنا نسميه في طفولتنا "أقراص الجلة"، ونفس البهائم التي تعيش مع الآدميين في تلك الظروف اللاآدمية، ونفس الفقر المدقع الذي كان جزءاً لا يتجزأ من ذلك الثالوث البغيض الذي هيمن علي حياة أغلبية المصريين حتي النصف الأول من القرن الماضي، نعني ثالوث الجهل والفقر والمرض.. ونحن لا نتحدث عن جيوب في مناطق نائية من تلك "الدولة القارة" وإنما نتحدث عن ربع السكان تقريباً الذين يعيشون تحت خط الفقر، أي إننا نتحدث عن نحو 250 مليون نسمة. وهؤلاء الفقراء لا يعيشون في الريف فقط، بل تراهم بكثافة في المدن الكبري بما في ذلك العاصمة دلهي. حيث يخطف وجودهم الكثيف النظر في معظم شوارع وأحياء الجزء القديم من دلهي، وحيث تتحول الأرصفة إلي "فنادق" مجانية، لمن لا مأوي لهم، وأماكن لعشرات المهن، ابتداءً من المطاعم المنصوبة علي قارعة الطريق في عربات شبيهة بعربات الفول في أحياء القاهرة الشعبية، وانتهاء بالحلاقين الذين يمارسون مهنتهم تحت الشجرة.. كما نحب أن نتندر في نكاتنا المصرية. وحتي في المدن الكبري لن تستطيع العين أن تخطئ سوء حالة الطرق وازدحامها الاستثنائي بشتي أنواع المواصلات، ابتداءً من السيارات الفارهة ومروراً بالسيارات العادية وانتهاء بالسيارات ثلاثية العجلات المسماة ب "الأوتوريكشا" و"الريكشا" العادية التي هي بمثابة "كاريتة" مركبة علي دراجة هوائية بثلاث عجلات أيضاً. ومن يري هذه "الأعراض" السابقة سيتصور أنه في بلاد متخلفة تماماً، لكن هذا الانطباع الذي له ما يبرره سرعان ما يكتسب حجماً مختلفاً إذا ما اتيحت لك الفرصة للتعامل مع الملف الهندي مع زوايا أخري.