هناك طرق متعددة لوصف التحديات التي تواجه أمريكا اللاتينية اليوم. من ضمن الفرقاء المتناقشين من يقول إنه السؤال القديم عن كيفية تجاوز الهوة بين الأغنياء والفقراء. بيد أنني أريد مقاربة هذه الإشكالية بمنظوري الخاص، ومن هذه الطريق أضيف مشكلة أمريكا اللاتينية علي النحو التالي: هل الدول في أمريكا اللاتينية تريد تقليد نموذج الهند أم نموذج الصين؟ وقد كان هذا السؤال هو المعني الكامن وراء الانتخابات التي جرت في البيرو مؤخراً. وفي الحقيقة، وما أعتقده، ان هذه المسألة تخترق شبه القارة اللاتينية كلها، والتي كانت تفضّل البحث عن مواردها بدلاً من البحث والحفر في شعوبها. وقبل أن أبدأ بشرح ما أقصده من وراء السؤال الكبير، أقدم بنموذج تفكيري وعملي لغابرييل روزمان وهو تكنولوجي يهودي من أصول هنغارية، وتربي في أوروجواي، وتعلّم في الولاياتالمتحدة، ويدير أكبر شركة هندية خارج حدود الهند هي شركة تاتا للاستشارات في مومباي. يدير روزمان كما سبق القول، شركة تاتا الهندية في كل أنحاء أمريكا اللاتينية من مونتيديو، حيث يعمل 550 مدرباً من أوروجواي دربهم الهنود، حيث يضعون البرامج الكومبيوترية، ويعاونهم مهندسون من الهند وهنغاريا والصين والبرازيل وتشيلي والمكسيك والأرجنتين، فالهند ايضاً صارت تعتبر أمريكا اللاتينية احدي حدائقها الخلفية. وبالمناسبة فان الصين أيضاً تعطي لشبه القارة هذا الموقع وهذه الأهمية. وتعمل الشركة في استخراج الثروة الطبيعية مثل الحديد والصلب والعاج وزيت دوار الشمس، والمعادن، والغاز والأسماك، لإطعام الأفواه المتشهية، وخلق فرص العمل والمصانع الدائرة بالصين، ولا أري في ذلك أي خطأ. فأمريكا واسبانيا قامتا بالشيء نفسه لعقود؛ وأحياناً بشكل أعنف، اما اليوم فان الشهية الصينية تساعد علي ازدهار تجارة السلع عبر العالم، والتي تمكّن الفقراء، والدول المتخلفة صناعياً من الوصول الي نسبة 50 % من النمو في العالم، كما هو الحال في البيرو. بيد أن البلدان التي تدمن علي بيع مواردها الطبيعية نادراً ما تقوم بتطوير قدراتها الانسانية وأنظمتها التعليمية وشركاتها الصغيرة النامية. وهكذا فبعد استنفاد الثروات المستخرجة تقفر المناجم وتقطع الأشجار، وينفد البترول، ويتراجع البشر الي حالة أسوأ مما كانوا فيها. روزمان يسأل: لماذا لا تفعل دول أمريكا اللاتينية ما فعلته الهند؟ ويتابع روزمان في حديثه معي قبل أسبوع بواشنطن: انا احتاج الآن الي اشخاص مدربين في 500 منصب، ولا أستطيع ايجادهم، وبسبب ذلك النظام التربوي غير المتطور، ان النموذج الهندي الذي ينبغي تقليده هو الهندسة، وهذا التخصص في أمريكا اللاتينية، ما يزال قاصراً، او انه ذو بنية طبقية. يحتاج الناس في شبه القارة الي كورسات في الكومبيوتر من مستوي متقدم، وتبدأ في اعمار مبكرة. فالتعليم العالي بشبه القارة، كما يقول روزمان، ما يزال يتبع النموذج الفرنسي الأوروبي. وهذا النظام صالح لانتاج الفلاسفة وليس المبرمجين، الفلاسفة مهمون، لكن لا نحتاج إليهم بهذه الكثرة. تحتاج أمريكا اللاتينية الي اللغة الانجليزية في التعليم. وتحتاج الي اعدام تلك التسجيلات البدائية التي تجعل الناس يدورون في حلقة مفرغة ولا يتقنون في النهاية أي شيء، ولا يستطيعون الدخول في عالم الأعمال. يقول روزمان ان المسافة بين مونتيديو والأرجنتين لا تزيد طيراناً علي العشرين دقيقة. لكن في عالم التكنولوجيا هناك عشرة آلاف ميل بين المكانين. وبالاضافة لذلك فان الأرضية القانونية في سائر شبه القارة تشجع فقط الزراعة والصناعة الخفيفة؛ وليس الملكية الفكرية والابداع. كل القوانين موضوعة لنمط آخر من المجتمعات. واذا لم نستطع ان نتلاءم مع الموجة الجديدة القادمة فاننا سنقع في متاعب جمة. والموجة القادمة التي اتحدث عنها تقول: اتبعوا الشمس! نحن نريد أن نبدأ مشروعاً في بنغالور أو بومباي، وعندما تميل الشمس للغروب نريد أن نكون قد أصبحنا في شرق أوروبا أو أمريكا اللاتينية. وتتوقع تاتا أن يكون مهندسوها في سائر أنحاء المعمورة علي نفس المستوي من التعليم والتدريب والقدرة علي الانجاز، واتقان اللغة الانجليزية، واستقبال خبرات ومواد الاتصال، وامداد المشروعات. ويتابع روزمان: عندنا خمسون الف موظف في الهند، وسيصبحون مائة ألف عمّا قريب. وقد يصبح مهندسونا مائة ألف في الصين أيضاً. لكنني لا استطيع أن ابلغ بمهندسي المائة الف في أي بلد بأمريكا اللاتينية، ولذلك فانا مضطر لجمع المائة ألف من سائر بلدان شبه القارة. تحسب أمريكا اللاتينية ان عليها أن تختار بين أحد نموذجين رأسماليين: نموذج دولة الرفاه المتقدمة بأوروبا، أو نموذج التكنولوجيا الفائرة بالولاياتالمتحدة، لكن قبل أن يقسم اللاتين الكعكة عليهم ان يختاروها، والخيار بين النموذج الهندي، الذي يعتمد استراتيجية تطوير الموارد البشرية، والنموذج الصيني الذي يعتمد استراتيجية بيع الثروات الطبيعية لتطويرها خارج القارة. ولأن الخيار لا بد منه، ولا بد أن يكون واحداً فعلي بلدان أمريكا اللاتينية ان تختار النموذج الهندي من أجل التقدم، بدلاً من الإدمان أو قبل الوصول إلي الادمان علي النموذج الصيني