الكلام عن أداء البنوك العاملة في مصر أكثر من الهم علي القلب.. ورغم كثرة هذا الكلام فإن معظمه يندرج تحت باب الثرثرة والثأثاة غير المفيدة وغير المنتجة. وإذا جري هذا الحديث علي لسان قيادات القطاع المصرفي فانه غالبا ما يكون بمثابة افتتان بالذات وادعاء بانه ليس في الإمكان أبدع مما كان.. وإذا تجاوز الكلام هذه الحدود "النرجسية" فإنه يدور في معظم الأحيان حول قضايا جزئية وفنية. لكن الأمر يختلف عندما يتكلم مفكر بوزن الدكتور إسماعيل صبري عبدالله.. ساعتها تصبح النظرة شاملة، وتكتسب الأرقام الجافة مدلولاتها الحية المرتبطة أصلا بأحوال الناس وتحولات المجتمع، وتصبح الملاحظات الانتقادية الثاقبة ناقوس إنذار يفيد البنوك والمتعاملين معها صغاراً وكباراً وينفع الاقتصاد الوطني بأسره. وهذا شأن تلك "التوطئة" السلسة التي كتبها الدكتور إسماعيل صبري عبد الله لكتاب "القطاع المالي وتمويل التنمية في مصر التطور والاستشراف حتي عام 2020" والتي تمثل ذروة السهل الممتنع، حيث رصد فيها الدكتور "إسماعيل" مدي كفاءة البنوك العاملة في مصر في جمع المدخرات وتوصيلها إلي السوق المالية. ونظرا لأهمية هذه التوطئة، وحيث ان القراء المحتملين لهذا الكتاب المهم الصادر عن منتدي العالم الثالث سيكونون محدودين علي الأرجح، فإن تعميم الفائدة تجعلني اترك مساحة مقالي الأسبوعي لأستاذنا العالم والمفكر الكبير الدكتور إسماعيل صبري عبد الله. يقول الدكتور إسماعيل: إذا لخصنا مدي كفاءة البنوك العاملة في مصر في جمع المدخرات وتوصيل معظمها إلي السوق المالية نجد ابتداء أرقاما مذهلة. فوفقا لتقرير البنك المركزي عن سنة 2000/2002 وصل حجم البنكنوت المصدر في نهاية سنة 2002 الي 6.45 مليار جنيه وكان حجم النقد خارج خزائن البنك المركزي 3.45 مليار. أما حجم المتداول خارج الجهاز المصرفي كله فقد بلغ 2.42 مليار اي حوالي 93% من الحجم الكلي ويعني هذا ان الغالبية العظمي من المعاملات التجارية والمالية تتم نقدا دون مرور بالجهاز المصرفي وهو وضع شاذ لا مثيل له في أي دولة ذات وزن. وفي أوروبا مثلا نجد حرص الحكومات كبيرا علي إتمام الناس لمعاملاتهم عن طريق الشيك أو بطاقات الائتمان. والسبب الرئيسي لهذا التدخل الحكومي هو الرغبة في متابعة تدفقات الأموال واتجاهاتها عن طريق ما يسمي "الجداول المالية" التي تمكن بنك فرنسا مثلا حين يقرض أحد البنوك او جهة حكومية ان يحدد بكثير من الدقة الجزء من القرض الذي سيعود إلي خزائنه خلال الأيام القليلة التالية وثمة سبب آخر هو التدني بتكلفة إصدار البنكنوت واسترجاع التالف منها نظير الجديد والمثل الشهير في هذا الصدد هو قرار السيدة مارجريت تاتشر حين كانت رئيس مجلس الوزراء بسحب الجنيه الاسترليني الورقي من التداول وان تحل محله قطعة معدنية لا يزيد عن حجم "التعريفة" التي كانت متداولة في مصر حتي اختفت هي والمليم تحت ضغط التضخم، والانخفاض الكبير للقوة الشرائية للعملة المصرية. ويمكن أن نضيف في حالتنا دور البنكنوت المتداول في الإضرار بالصحة العامة لما ينتج عليه من قاذورات وميكروبات وفيروسات. ويصف السياح الأوروبيون أوراق النقد المصرية "بالنقود القذرة". وللإنصاف يجب أن نؤكد أن المسئول الأكبر في عجز الشيك عن الحلول محل الورق النقدي هو الحكومة. ففيما عدا مصلحة الضرائب ترفض كل الجهات الحكومية الشيك كوسيلة للدفع في حين نجد الحكومات الأوروبية ترفض قبول النقود الورقية في سداد ما يستحق لها لدي المواطنين. ولكن البنوك من ناحيتها حولت الشيك من وسيلة دفع إلي كمبيالة تستحق السداد بعد عدة شهور، وهي كمبيالة عجيبة لأنها لا تستخدم في إعادة خصم قيمتها لدي البنك المركزي. وهكذا تراكمت قضايا الشيكات مؤجلة الدفع بمئات الألوف مما زاد العبء علي المحاكم بدون مسوغ حقيقي. وبدون الشيك يضطر الناس للاحتفاظ بمبالغ من النقود الورقية ولا تغنيهم ودائعهم لدي البنوك. والأصل المتبع في بلاد الله التي تطبق القوانين بأمانة هو أن يكون للمواطن ولاسيما من يمارسون التجارة بأوسع معانيها حساب جار مصحوب بفتح اعتماد أي تغطية البنك لشيكات العميل فيما يزيد عن قيمة الوديعة في حدود سقف معين. وهذا ما ييسر التعامل بالشيك دون مواجهة مشكلة شيك بدون رصيد. وقد نظم القانون التجاري الجديد الذي أفني السنوات الأخيرة من حياته أستاذنا الجليل محسن شفيق في صياغته التعامل بالشيك وتحديد ضوابطه. ولكن من يسمون "رجال الأعمال" بنفوذهم في مجلس الشعب انتزعوا من الحكومة الموافقة علي تأجيل تطبيق المواد الخاصة بالشيك لمدة عامين فهم يفضلون الصيد في الماء العكر. واحسب ان المدة المذكورة قد انتهت دون أن تتحرك الحكومة في اتجاه تفعيل المواد المجمدة.