فجأة تنتقل من دنيا اللهث ومدعي العقل والحكمة لتلتقي بالصفاء والنقي، هذا ما قالته لي أعماقي فور أن دخلت المعرض المقام بخان المغربي، المعرض يضم بعضا من تماثيل الفنان الذي يشع بذكاء نادر وطفولة يصعب الحفاظ عليها في دروب العمر، ويعيش في بساطة غير ركيكة، بساطة الإبداع، وأعني به اَدم حنين، هذا الذي وهب نفسه ليعيش نحاتا، ولم تستطع تفاصيل الحياة اليومية أن تسرقه من عالمه الخاص، هذا العالم الممتد من خمسة اَلاف عام علي الأقل، أي من أيام أن نحت المصري الفرعوني تماثيله الباقية باتساق واقتدار، مرورا بكل ما جاء من بعد ذلك من محاولات الإمساك بتفاصيل ضوء النهار المنعكس علي الكائنات، نعم فالنحت هو قدرة الفنان علي أن يمسك ببعض من نور الشمس ليضعه في قلب المادة التي ينحتها سواء أكانت جرانيت أو طينا، أو أي مادة من أي نوع، والتمثال الذي لا يشع بالضوء من داخله لا يملك تأثيرا في أعماقي. أتجول بين عدة تماثيل صغيرة الحجم، هائلة القدرة علي الإشعاع، تأخذ العين لتسافر إلي القلب، فيستكين الإنسان من هرولته في هذا الزمن اللاهث.. وأتوقف عند قطتين متلاصقتين تبدوان وكأنهما كائن واحد، وتكادان أن تلخصا حياة اثنين من محبي اَدم، وهما إبراهيم الدسوقي فهمي وزوجته هند عدنان، وكل منهما مصور قادر، يبدع أي منهما في لوحاته تعجز الكلمات عن الإمساك به، فالمهارة لا تسبق الدفقة الفنية الساحرة التي تكمن في كل لوحة، وعلي الرغم من أن اَدم يسبق في الخبرة والعمر كلا من إبراهيم وهند إلا أنه قرر أن يعرض معهما وفنان رابع هو جميل شفيق.. وقبل أن انتقل إلي الكلام عن جميل شفيق لابد لي أن أقول إن العين التي لا تبصر هي التي تجمع إبراهيم وهند في أسلوب واحد، ولكن من يملك قدرة تمييز موسيقي الألوان يمكنه أن يري بشكل حاد مناطق من الاتصال والتواصل، ومناطق من الانفصال والتفرد في أي لوحة من إبراهيم أو هند. أما جميل شفيق هذا الذي يدمن الحفر بالأبيض والأسود، فقد امتلك ملء مساحات صغيرة برقصات بين الحصان والمرأة، وهو في هذه الرقصات يبلغ منطقة جديدة من تماسك الإبداع، واَه من الإبداع حين يبتعد عن فنان، واَه منه حين يهدي نفسه لخط واضح ومساحة بيضاء ترسم جلالها وجمالها أمام العين لتسافر إلي القلب. وما يهديك إياه هذا المعرض بقاعة المغربي بالزمالك هو قدر من هذا السحر الذي نميز به العمل الفني من العمل المصنوع دون إحساس، وسحر الفن يصعب محاصرته بالكلمات، وكيف يمكن للكلمة دقة تصوير هذا التيار من الكهرباء الخفية التي تمتد من العين لتترجم نفسها في المخ، فتتغير الحالة المزاجية للإنسان، وهو تيار كهربي لا ينضب كلما كان العمل الفني يملكه. ولعل هذا هو السبب في أني أثور علي من يحطمون قدراتهم الإبداعية فيما يسمي بالتجهيز في الفراغ، لأن منهم فنانين لهم أسلوب ويعطون جوهرا حيا، يذوب بعد انتهاء العرض.