أكتب ما أكتب قبل ساعات من الانتخابات الأمريكية.. وقد يظهر هذا المقال بعد إعلان اسم الرئيس الأمريكي الجديد، فلم يكن شاغلي الأساسي من سيحتل المكتب البيضاوي في البيت الأبيض، هل هو الديموقراطي جون كيري أم الجمهوري جورج بوش. وليس في ذلك بالطبع تقليل أو تهميش لنتائج الانتخابات في البلد الذي مازال يحتل سقف العالم اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، فلا أعتقد أننا في العالم الثالث، وفي العالم العربي بشكل خاص نملك شرف اللامبالاة إزاء تلك الانتخابات التي لا تتعلق فقط بالرئيس بل وأيضاً بحكام الولايات ومجلس النواب ونصف أعضاء مجلس الشيوخ. ولكن الذي أعنيه أننا شهدنا في هذه المعركة التي تواصلت علي مدي العام كله صراعاً محتدماً داخل المجتمع الأمريكي نفسه صراعاً يكاد يصل إلي القول بانقسام أمريكا حقاً إلي معسكرين، واحسب أن هناك الكثير من الشواهد والدلائل التي تؤكد ذلك، وانتصار أحد المعسكرين المتصارعين سيكون له آثار بعيدة المدي بالسلب أو بالإيجاب علي مستقبل العلاقات الأمريكية العربية. فالقضية المطروحة لا تتعلق فقط بصراع داخلي أمريكي بين الجمهوريين والديموقراطيين أو بين الليبراليين والمحافظين، ولكنها تتعلق وفي الأساس بإعادة صياغة الدور الأمريكي علي النطاق العالمي كله.. والنظر إلي القضايا المطروحة الخاصة بالحرب في العراق وأفغانستان والدخول في معركة ضد الإرهاب العالمي، هي مجرد حصان طرواده الضخم الذي يجري علي عجلات ويثير الدهشة لضخامته وغرابته، ولكنه يحمل في داخله الدمار الشامل ليس فقط لقرطاجنة بل وأيضاً لأبناء الإغريق. وجورج بوش الابن ومجموعته من المحافظين اليمينيين والممسوسين بالهاجس الديني يقدمون توليفة من المبادئ والقيم الجديدة تحت عنوان "الصحوة القومية وممارسة الدور القيادي التاريخي للولايات المتحدة" وتماماً مثل غلاة الاتجاهات القومية الشوفينية من أمثال هتلر وموسليني فإن القضية الأساسية تتعلق بالتسلط والتفوق وضرورة قهر الآخر وإخضاعه. وارتبط بذلك الدخول في حربين في أقل من أربع سنوات وزيادة الميزانيات العسكرية إلي آفاق غير مسبوقة مع تخفيض المشاركة الأمريكية في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وتخفيض المعونات والمساعدات الخارجية، كذلك تخفيض مخصصات الانفاق الاجتماعي في الداخل في التعليم والصحة وإيمانة البطالة ومعاش الشيخوخة. والاتجاه الذي عبر عنه المحافظون بهاجسهم الديني وتطرفهم القومي هو نفس الاتجاه الذي حذر منه أمريكي عظيم توفي منذ بضعة سنوات وهو وليام فولبرايت المفكر ورجل الدولة الليبرالي والذي ظل لفترة طويلة يرأس لجنة العلاقات الخارجية في الكونجرس الأمريكي. ووليام فولبرايت لم يكن مجرد مسئول أمريكي كبير، بل كان مفكراً له رؤاه الخاصة التي كثيراً ما اختلفت مع توجهات أجهزة القرار الأمريكي، وكان في تحذيراته ونبوءاته حول المستقبل أشبه بصوت الكسندرا وهي تلقي نبوءاتها علي أطلال طروادة المحترقة. وفولبرايت الذي كان يمثل ويجسد الاتجاه الليبرالي الأمريكي سواء داخل صفوف الجمهوريين أم الديموقراطيين حذر ومنذ فترة طويلة من أن الولاياتالمتحدة سوف تمضي في طريقها إلي الانهيار الحتمي إذا ما واصلت سياستها في ممارسة غطرسة القوة وأعطت لنفسها الحق في التدخل في الشئون الداخلية للدول الأخري مهما كانت المبررات والشعارات، وابتعدت عما أسماه بالمشاركة النشطة والعادلة في الشئون الدولية وفقاً لميثاق الأممالمتحدة. وضمن فولبرايت هذه الأفكار والتحذيرات في كتابين شهيرين له هما: "ثمن الإمبراطورية"، و"غطرسة القوة" وضرب أمثلة علي ذلك بالسياسات الأمريكية في السبعينيات والثمانينيات ودور رجل البوليس الدولي الذي حاولت أمريكا أن تلعبه في قيام الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية. ولقد حمل راية الليبرالية الأمريكية بعد ذلك تلميذ مخلص لفولبرايت هو بول كندي المؤرخ الأمريكي والبريطاني الأصل، وأعاد تأكيد مقولات وتحذيرات فولبرايت في الثمانينيات والتسعينيات ومشارف القرن الجديد. وفي كتابه الشهير "صعود وسقوط القوي العظمي" أكد بول كندي أن هناك عوامل كثيرة مشتركة لابد وأن تؤدي إلي سقوط وانهيار القوتين العظميين في ذلك الوقت وهما الاتحاد السوفيتي والولاياتالمتحدةالأمريكية وذلك لأن كليهما يلعبان دور رجل البوليس الدولي ومحاولة الهيمنة والسيطرة الأمر الذي يستنزف قوتهما البشرية والمادية والعجز عن مواكبة التطورات الدولية. وإذا كان الاتحاد السوفيتي قد سقط وانهار بعد أقل من خمس سنوات من كتاب بول كندي ونبوءته العلمية، فإنه عاد لتأكيد الشق الخاص بالولاياتالمتحدة علي اعتبار أن نفس العوامل التي أدت إلي انهيار الاتحاد السوفيتي لاتزال كامنة داخل المجتمع الأمريكي ويمكن أن تنفجر في أية لحظة.